الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما بين للأسرى أن الخير الذي لم يطلع عليه من قلوبهم غير الله لا ينفعهم في إسقاط الفداء عنهم لأنه لا دليل عليه، وكل ما لا دليل عليه فحكمه حكم العدم؛ لأن مبنى الشرع على ما يمكن المكلف معرفته وهو الظواهر، وختم بصفتي العلم والحكمة، شرع يبين الخبر الذي يفيد القرب الذي تنبني عليه المناصرة وكل خير، فقال مقسما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أقسام: قسم جمع الإيمان والهجرة أولا والجهاد، وقسم آوى، وقسم آمن ولم يهاجر، وقسم هاجر من بعد: إن الذين آمنوا أي: بالله ورسوله وهاجروا أي: واقعوا الهجرة [ ص: 337 ] من بلاد الشرك، وهم المهاجرون الأولون، هجروا أوطانهم وعشائرهم وأحبابهم حبا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجاهدوا أي: واقعوا الجهاد، وهو بذل الجهد في توهين الكفر وأهله.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت الآيات المتقدمة في آلات الجهاد من النفس والمال تارة بالحث على إنفاقه وأخرى بالنهي عن حبه وتارة بالتسلية للأسرى عند فقده، كان الأنسب تقديم قوله: بأموالهم أي: بإنفاقهم لها في الجهاد وتضييع بعضها بالهجرة من الديار والنخيل وغيرها وأنفسهم بإقدامهم على القتال مع شدة الأعداء وكثرتهم; وقدم المال لأنه سبب قيام النفس، وكان في غاية العزة في أول الأمر، وأخر قوله: في سبيل الله أي: الملك الأعظم لذلك، "وفي" سببية أي: جاهدوا بسببه حتى لا يصد عنه صاد فتظهر محاسنه ويسهل المرور فيه من غير قاطع، ولعله عبر ب: "في" إعلاما بأنه ينبغي أن يكون متمكنا من السبيل تمكن المظروف من ظرفه حتى يكون الدين غالبا عليه لا يخرج عنه بوجه من الوجوه، وأما في سورة براءة فلما كان السياق في بعض الأماكن بها للسبيل قدم - كما سيأتي، وأيضا فإن هذه السورة نزلت في أوائل الأمر بعد وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة، وكان الحال إذ ذاك شديدا جدا، والأموال في غاية القلة، والأعداء لا يحصون، فناسب الاهتمام بشأن المال والنفس [ ص: 338 ] فقدما ترغيبا في بذلهما، وأما براءة فنزلت في غزوة تبوك في أواخر سنة تسع، فكان المال قد اتسع، والدين قد عز وضخم وقوي وعظم، وأسلم غالب الناس، فبعدت مواضع الجهاد فعظمت المشقة، وتواكل الناس بعضهم على بعض ورغبوا في الإقبال على إصلاح الأموال، فناسب البداءة هناك بالسبيل.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر أهل الهجرة الأولى، أتبعهم أهل النصرة، وهم القسم الثاني من المؤمنين الذين كانوا على زمنه صلى الله عليه وسلم فقال: والذين آووا أي: من هاجر إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم فأسكنوهم في ديارهم، وقسموا لهم من أموالهم، وعرضوا عليهم أن ينزلوا لهم عن بعض نسائهم ليتزوجوهن، وإنما قصر الفعل إشارة إلى تعظيم فعلهم بحيث كأنه لا إيواء في الوجود غير ما فعلوا، وكذا قوله: ونصروا أي: الله ورسوله والمؤمنين، وهم الأنصار رضي الله عنهم، حازوا هذين الوصفين الشريفين فكانوا في الذروة من كلتا الحسنيين، ولولا إيواؤهم ونصرهم لما تم المقصود، والمهاجرون الأولون أعلى منهم لسبقهم في الإيمان الذي هو رئيس الفضائل ولحملهم الأذى من الكفار زمانا طويلا وصبرهم على فرقة الأوطان والعشائر.

                                                                                                                                                                                                                                      وأشار إلى القسمين بأداة البعد لعلو مقامهم وعز مرامهم فقال: أولئك أي: العالو الرتبة بعضهم أولياء بعض أي: في الميراث دون القرب العاري عن ذلك، فبين أن الإيمان [ ص: 339 ] إن لم يقترن بشهيدين هما الهجرة والجهاد من الغرب عن المدينة وشهيدين هما الإيواء والنصرة من أهل المدينة، كان عائقا عن مطلق القرب بل مانعا من نفوذ لحمة النسب كل النفوذ، فكأن من آمن ولم يهاجر لم يرث ممن هاجر. قاله ابن عباس رضي الله عنهما، ومادة ولي بجميع تصاريفها ترجع إلى الميل، ويلزم منه القرب والبعد، وربما نشأ عن كل منهما الشدة، وترتيب ولي بخصوصه يدور على القرب، ومن لوازمه النصرة، فالمعنى: بعضهم أقرباء بعض، يلزم كلا منهم في حق الآخر من المناصرة وغيره ما يلزم القريب لقريبه، فمتى جمعهم وصف جعلهم شركاء فيما يثمره، فوصف الحضور في غزوة يشرك بينهم في الغنائم؛ لأن أنواع الجهاد كثيرة، وكل واحد منهم باشر بعضها، فعن حضور الكل نشأت النصرة، والمهاجر في الأصل من فارق الكفار بقلبه ولاواهم، ورافق المؤمنين بحبه ولبه ووالاهم، لكن لما كان هذا قد يخفى، نيط الأمر بالمظنة وهي الدار، لأنها أمر ظاهر، فصار المهاجر من باعد دار المشركين فرارا بدينه، ثم صار شرط ذلك بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون النقلة إلى دار هجرته: المدينة الشريفة هذا حكم كل مهاجر إلا ما كان من خزاعة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد علم من مؤمنهم وكافرهم حبه ونصحه وبغض عدوه فلم يلزم مؤمنهم النقلة; قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البر في كتاب المدخل إلى [ ص: 340 ] الاستيعاب; ويقال لخزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم حلفاء بني هاشم وقد أدخلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب القضية عام الحديبية - إلى أن قال: وأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم منزلة لم يعطها أحدا من الناس أن جعلهم مهاجرين بأرضهم وكتب لهم بذلك كتابا. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال شاعرهم نجيد بن عمران الخزاعي يفخر بذلك وغيره مما خصهم الله به على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم:


                                                                                                                                                                                                                                      وقد أنشأ الله السحاب بنصرنا ركام سحاب الهيدب المتراكب

                                                                                                                                                                                                                                          وهجرتنا في أرضنا عندنا بها
                                                                                                                                                                                                                                      كتاب أتى من خير ممل وكاتب

                                                                                                                                                                                                                                          ومن أجلنا حلت بمكة حرمة
                                                                                                                                                                                                                                      ... لندرك ثأرا بالسيوف القواضب



                                                                                                                                                                                                                                      ذكر ذلك الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي في غزوة الفتح من سيرته، والذي تولى حلفهم أولا هو عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، قال الواقدي في أول غزوة الفتح: وكانت خزاعة حلفاء لعبد المطلب، وكان رسول صلى الله عليه وسلم بذلك عارفا، لقد جاءته يومئذ - يعني يوم الحديبية - خزاعة بكتاب عبد المطلب فقرأه وهو "باسمك اللهم هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة إذ قدم عليه وسراتهم [ ص: 341 ] وأهل الرأي، غائبهم مقر بما قضى عليه شاهدهم، إن بيننا وبينكم عهد الله وعقوده، ما لا ينسى أبدا، اليد واحدة والنصر واحد، ما أشرف ثبير وثبت حراء، وما بل بحر صوفة، لا يزداد فيما بيننا وبينكم إلا تجددا أبدا أبدا، الدهر سرمدا" فقرأه عليه أبي بن كعب رضي الله عنه فقال: "ما أعرفني بحلفكم وأنتم على ما أسلمتم عليه من الحلف، وكل حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا حلف في الإسلام"; قال الواقدي : "وجاءته أسلم هو بغدير الأشطاط" جاء بهم بريدة بن الحصيب فقال: يا رسول الله، هذه أسلم وهذه محالها وقد هاجر إليك من هاجر منها وبقي قوم منهم في مواشيهم ومعاشهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم مهاجرون حيث كنتم، ودعا العلاء بن الحضرمي فأمره أن يكتب لهم كتابا فكتب: "هذا كتاب من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسلم لمن آمن منهم بالله وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فإنه آمن بأمان الله، وله ذمة الله وذمة رسوله، وإن أمرنا وأمركم واحد على من دهمنا من الناس بظلم، اليد واحدة والنصر واحد، ولأهل باديتهم مثل ما لأهل قرارهم [ ص: 342 ] وهم مهاجرون حيث كانوا" وكتب العلاء بن الحضرمي فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله! نعم الرجل بريدة بن الحصيب لقومه عظيم البركة عليهم، مررنا به ليلة مررنا ونحن مهاجرون إلى المدينة، فأسلم وأسلم معه من قومه من أسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل بريدة لقومه وغير قومه. يا أبا بكر ، إن خير القوم من كان مدافعا عن قومه ما لم يأثم، فإنه الإثم لا خير فيه" انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وأسلم شعب من أربعة شعوب من خزاعة. ولما فتحت مكة، انقطعت الهجرة لظهور الدين وضعف المشركين، وقام مقام الهجرة النية الخالصة المدلول عليها بالجهاد كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية". وقال صلى الله عليه وسلم: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" فإن كان المؤمن لا يتمكن من إظهار دينه وجبت عليه النقلة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما بين سبحانه تعالى أمر من جمع الشروط، شرع يبين حكم من قعد عن بعضها وهو القسم الثالث فقال: والذين آمنوا أي: اشتهر إيمانهم ولم يهاجروا أي: قبل الفتح بل استمروا في بلادهم ما لكم من ولايتهم وأغرق في النفي فقال: من شيء أي: في التوارث ولا في غيره; ورغبهم في الهجرة بقوله: حتى يهاجروا أي: يواقعوا الهجرة لدار الشرك ومن فيها وإن استنصروكم أي: طلبوا نصركم في الدين أي: [ ص: 343 ] بسبب أمر من أموره وهم متمكنون من الدين تمكن المظروف من الظرف فعليكم النصر أي: واجب عليكم أن تنصروهم على المشركين، فالمعنى أنه ليس لهم عليكم حق القريب إلا في الاستنصار في الدين، فإن ترك نصرهم يجر إلى مفسدة كما أن موالاتهم تجر إلى مفاسد; ثم استثنى من الوجوب فقال: إلا على قوم وقع وكان بينكم وبينهم ميثاق أي: لأن استنصارهم يوقع بين مفسدتين: ترك نصرة المؤمن ونقض العهد وهو أعظمهما، فقدمت مراعاته وتركت نصرتهم، فإن نصرهم الله على الكفار فهو المراد من غير أن تدنسوا بنقض، وإن نصر الكفار حصل لمن قتل من إخوانكم الشهادة ولمن بقي الضمان بالكفاية، وكان ذلك داعيا لهم إلى الهجرة، ومن ارتد منهم أبعده الله ولن يضر إلا نفسه والله غني حميد، فقد وقع - كما ترى - تقسيم المؤمنين إلى ثلاثة أقسام: أعلاها المهاجر، ويليه الناصر، وأدناها القاعد القاصر، وبقي قسم رابع يأتي; قال أبو حيان : فبدأ بالمهاجرين - أي: الأولين - لأنهم أصل الإسلام وأول من استجاب لله تعالى، فهاجر قوم إلى المدينة، وقوم إلى الحبشة، وقوم إلى ابن ذي يزن، ثم هاجروا إلى المدينة وكانوا قدوة لغيرهم في الإيمان وسبب تقوية الدين "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" وثنى بالأنصار لأنهم ساووهم [ ص: 344 ] في الإيمان وفي الجهاد بالنفس والمال، لكنه عادل بالهجرة الإيواء والنصرة، وانفرد المهاجرون بالسبق، وذكر ثالثا من آمن ولم ينصر، ففاتهم هاتان الفضيلتان وحرموا الولاية حتى يهاجروا، ثم قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري، ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري، قال ابن زيد : واستمر أمرهم كذلك إلى فتح مكة. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      لكن ما ذكر ابن عبد البر - كما سيأتي - من أن حكم ذلك زال بوقعة بدر أولى للآية الآتية آخر السورة مع ما يؤيد ذلك من آية الأحزاب.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان التقدير: فالله بمصالحكم خبير، وكان للنفوس دواع إلى مناصرة الأقارب والأحباب ومعاداة غيرهم خفية، ولها دسائس تدرك، حذر من ذلك بقوله: عاطفا على هذا المقدر: والله أي: المحيط علما وقدرة، ولما كان السياق لبيان المصالح التي تنظم الدين وتهدم ما عداه، وكان للنفوس - كما تقدم - أحوال، اقتضى تأكيد العلم بالخفايا فقدم الجار الدال على الاختصاص الذي هو هنا كناية عن إحاطة العلم فقط مرهبا: بما تعملون بصير وفي ذلك أيضا ترغيب في العمل بما حث عليه من الإيمان والهجرة والنصرة والإنفاق والتحري [ ص: 345 ] في جميع من ذلك وترهيب من العمل بأضدادها، وفي "البصير" إشارة إلى العلم بما يكون من ذلك خالصا أو مشوبا، ففيه مزيد حث على الإخلاص.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية