الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل الحادي عشر : حكم السهو والنسيان في الأفعال

          هذا حكم ما تكون المخالفة فيه من الأعمال عن قصد ، وهو ما يسمى معصية ، ويدخل تحت التكليف . وأما ما يكون بغير قصد وتعمد ، كالسهو والنسيان في الوظائف الشرعية مما تقرر الشرع بعدم تعلق الخطاب به ، وترك المؤاخذة عليه ، فأحوال الأنبياء في ترك المؤاخذة به ، وكونه ليس بمعصية لهم مع أممهم سواء . ثم ذلك على نوعين : ما طريقه البلاغ ، وتقرير الشرع ، وتعلق الأحكام ، وتعليم الأمة بالفعل ، وأخذهم باتباعه فيه ، وما هو خارج عن هذا مما يختص بنفسه .

          أما الأول فحكمه عند جماعة من العلماء حكم السهو في القول في هذا الباب .

          وقد ذكرنا الاتفاق على امتناع ذلك في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعصمته من جوازه عليه قصدا أو سهوا ، فكذلك قالوا : الأفعال في هذا الباب لا يجوز طرو المخالفة فيها لا عمدا ولا سهوا ، لأنها بمعنى القول من جهة التبليغ والأداء ، وطرو هذه العوارض عليها يوجب التشكيك ، ويسبب المطاعن .

          واعتذروا عن أحاديث السهو بتوجيهات نذكرها بعد هذا . وإلى هذا مال أبو إسحاق .

          وذهب الأكثر من الفقهاء والمتكلمين إلى أن المخالفة في الأفعال البلاغية ، والأحكام الشرعية سهوا ، وعن غير قصد منه جائزة عليه ، كما تقرر من أحاديث السهو في الصلاة ، وفرقوا بين ذلك ، وبين الأقوال البلاغية لقيام المعجزة على الصدق في القول ، ومخالفة ذلك يناقضها .

          وأما السهو في الأفعال فغير مناقض لها ، ولا قادح في النبوة ، بل غلطات الفعل ، وغفلات القلب من سمات البشر ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : إنما أنا بشر ، أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني نعم ، بل حالة النسيان والسهو هنا في حقه - صلى الله عليه وسلم - سبب إفادة علم ، وتقرير شرع ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : إني لأنسى أو أنسى لأسن .

          بل قد روي : لست أنسى ، ولكن أنسى لأسن .

          وهذه الحالة زيادة في التبليغ ، وتمام عليه في النعمة بعيدة عن سمات النقص ، واعتراض الطعن ، فإن القائلين بتجويز ذلك يشترطون أن الرسل لا تقر على السهو ، والغلط ، بل ينبهون عليه ، ويعرفون حكمه بالفور على قول بعضهم ، وهو الصحيح ، وقبل انقراضهم على قول الآخرين .

          وأما ما ليس طريقه البلاغ ، ولا بيان الأحكام من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - ، وما يختص به من [ ص: 493 ] أمور دينه ، وأذكار قلبه مما لم يفعله ليتبع فيه ، فالأكثر من طبقات علماء الأمة على جواز السهو والغلط عليه فيها ، ولحوق الفترات ، والغفلات بقلبه ، وذلك بما كلفه من مقاساة الخلق ، وسياسات الأمة ، ومعاناة الأهل ، وملاحظة الأعداء ، ولكن ليس على سبيل التكرار ، ولا الاتصال ، بل على سبيل الندور ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله .

          وليس في هذا شيء يحط من رتبته ، ويناقض معجزته .

          وذهبت طائفة إلى منع السهو ، والنسيان ، والغفلات ، والفترات في حقه - صلى الله عليه وسلم - جملة .

          وهو مذهب جماعة المتصوفة ، وأصحاب علم القلوب ، والمقامات ، ولهم في هذه الأحاديث مذاهب نذكرها بعد هذا إن شاء الله .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية