الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنـزل عليه كنـز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل

                                                          (الفاء) فاء الإفصاح لأنها تفصح عن شرط مقدر، والشرط تحريض على الصبر، وتقديره إذا لم تصبر فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك. أي: أنه لا مناص من الصبر على الأذى والتأني لهم حتى يكون النصر المبين، وإلا فإنك تنزل عند رغباتهم الآثمة. فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك (لعل) هنا فيها إشارة إلى ما يرجون، فلعلك أنت يا رسول الله إلى خلقه أجمعين تجاريهم في ترك بعض ما يوحى إليك من شرع مرضاة لهم، فتحرم ما يحرمون وتبيح ما يبيحون. تحرم ما يحرمون من طيبات، وتجيز طواف العرايا ثم تنزل في مرضاتهم حتى تسيغ لهم عبادة الأوثان أو يكون السكوت عنهم فيها.

                                                          وضائق به صدرك الضمير في (به) يعود إلى (ما يوحى)، (ضائق) أي: يعرض أمر غريب على نفسك وهو أن يضيق صدرك ببعض ما أنزل عليك وبعثت من أجله وبه اهتديت وبه تهدي.

                                                          ليس المعنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ضاق صدره أو يضيق، إنما المعنى أنهم يرجون أن تترك بعض ما أوحي إليك وأن يضيق صدرك بإيذائهم فتتركه مضطرا.

                                                          والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن منه شيء من ذلك ولا يفكر في شيء منه ولكن يحرضه الله تعالى على البقاء على الدعوة وتبليغ الرسالة غير ملتفت إلى أحد منهم، ثم قال تعالى: أن يقولوا لولا أنـزل عليه كنـز أو جاء معه ملك وهذا متعلق بمحذوف " كراهة أن يقولوا لولا " أو نقول إنه متعلق بـ (ضائق) ويكون المعنى على هذا: [ ص: 3677 ] لعلك تارك بعض ما يوحى إليك بسبب إيذائهم المتوالي وسفاهتهم معك، أو يضيق صدرك في عدم خضوعهم للمعجزة الكبرى وقد تحديتهم فعجزوا، ثم طلبوا معجزات أخرى. وهذا هو الذي نختاره.

                                                          وقد أنكروا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فقير وقالوا لولا نـزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم

                                                          وأنكروا أن يكون بشرا منهم رسولا وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق

                                                          أنكروا الأمرين وطلبوا معجزة واقعة لأحدهما وقالوا: لولا أنـزل عليه كنـز أي: مال مكنوز يفعل فيه مثل الذين يكنزون الذهب والفضة. والمعجزة أن ينزل عليه إنزالا من غير أي سبب من أسباب الكسب فيكون له جبل من ذهب وآخر من فضة، وبذلك يدفع فقره ويكون اتباعه لثروته ولإنزال هذه الثروة والإعجاز بها، أما الأمر الثاني فيدفع بأن يكون معه ملك، وتكون الرسالة برسول سماوي لا برجل يمشي في الأسواق مثلهم، وقد بين الله استحالة ذلك بقوله تعالى: ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون

                                                          ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصا على إيمانهم راغبا فيه، ولذا قال تعالى: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين

                                                          ولذا قال تعالى: إنما أنت نذير أي: إنك مقصور على الإنذار بمقتضى الرسالة وليس عملك الهداية، بل التوجيه والتخويف لمن عصى، والتبشير لمن اهتدى، ووضع العلامات على الطريق لكيلا يضل أحد والله على كل شيء وكيل أي: إنه جل جلاله حفيظ على كل شيء، فتوكل عليه في دعوتك ولا تأبه لهم، فالله سبحانه حافظك منهم ومن طغواهم وهو سبحانه عالم بكل ما يصنعون، ومعاقبهم عليه، وهم راجعون إليه سبحانه وتعالى، ولن يفلتوا من جزاء ما يفعلون، فتوكل على الله الحي القيوم، وامض فيما أمرك به; إنه عليم بذات الصدور.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية