الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين

                                                                                                                                                                                                                                      بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه إضراب وانتقال عن إظهار بطلان ما قالوا في حق القرآن العظيم بالتحدي إلى إظهاره ببيان أنه كلام ناشئ عن جهلهم بشأنه الجليل، فـ "ما" عبارة عن كله لا عما فيه من ذكر البعث والجزاء وما يخالف دينهم - كما قيل - فإنه مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن مثله، أي: سارعوا إلى تكذيبه آثر ذي أثير من غير أن يتدبروا فيه ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الدالة على كونه كما وصف آنفا، ويعلموا أنه ليس مما يمكن أن يكون له نظير يقدر عليه المخلوق، والتعبير عنه (بما لم يحيطوا بعلمه) دون أن يقال: بل كذبوا به من غير أن يحيطوا بعلمه - أو نحو ذلك - للإيذان بكمال جهلهم به، وأنهم لم يعلموه إلا بعنوان عدم العلم به، وبأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم علمهم به لما أن إدارة الحكم على الموصول مشعرة بعلية ما في حيز الصلة له.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما يأتهم تأويله عطف على الصلة، أو حال من الموصول، أي: ولم يقفوا بعد على تأويله، ولم يبلغ أذهانهم معانيه الرائقة المنبئة عن علو شأنه، والتعبير عن ذلك بإتيان التأويل للإشعار بأن تأويله متوجه إلى الأذهان، منساق إليها بنفسه، أو لم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب حتى يتبين أنه صدق أم كذب، والمعنى أن القرآن معجز من جهة النظم والمعنى، ومن جهة الإخبار بالغيب، وهم قد فاجئوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه ويتفكروا في معناه، [ ص: 147 ] أو ينتظروا وقوع ما أخبر به من الأمور المستقبلة، ونفي إتيان التأويل بكلمة "لما" الدالة على التوقع بعد نفي الإحاطة بعلمه بكلمة (لم) لتأكيد الذم وتشديد التشنيع، فإن الشناعة في تكذيب الشيء قبل علمه المتوقع إتيانه أفحش منها في تكذيبه قبل علمه مطلقا، والمعنى: أنه كان يجب عليهم أن يتوقفوا إلى زمان وقوع المتوقع فلم يفعلوا، وأما أن المتوقع قد وقع بعد - وأنهم استمروا عند ذلك أيضا على ما هم عليه أولا - فلا تعرض له ههنا، والاستشهاد عليه بعدم انقطاع الذم - أو ادعاء أن قولهم (افتراه) تكذيب بعد التدبر - ناشئ من عدم التدبر، فتدبر، كيف لا، وهم لم يقولوه بعد التحدي بل قبله؟ وادعاء كونه مسبوقا بالتحدي الوارد في سورة البقرة يرده أنها مدنية وهذه مكية، وإنما الذي يدل عليه ما سيتلى عليك من قوله تعالى: ومنهم من يؤمن به ومنهم ... إلخ.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: كذلك ... إلخ، وصف لحالهم المحكي وبيان لما يؤدي إليه من العقوبة، أي: مثل ذلك التكذيب المبني على بادئ الرأي والمجازفة من غير تدبر وتأمل كذب الذين من قبلهم أي: فعلوا التكذيب، أو كذبوا ما كذبوا من المعجزات التي ظهرت على أيدي أنبيائهم، أو كذبوا أنبياءهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وهم الذين من قبلهم من المكذبين، وإنما وضع المظهر موضع المضمر للإيذان بكون التكذيب ظلما، أو بعليته لإصابة ما أصابهم من سوء العاقبة، وبدخول هؤلاء الظالمين في زمرتهم جرما ووعيدا دخولا أوليا، وقوله عز وجل:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية