الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ومن الأحداث] وفاة موسى عليه السلام

قال السدي عن أشياخه: بينما موسى يمشي ويوشع فتاه إذ أقبلت ريح سوداء ، فلما نظر [إليها] يوشع ظن أنها الساعة فالتزم موسى وقال: يا قوم الساعة ، وأنا ملتزم موسى نبي الله ، فاستل موسى من تحت القميص وترك القميص في يدي يوشع ، فلما جاء يوشع بالقميص أخذته بنو إسرائيل ، وقالوا: قتلت نبي الله ، قال: لا والله ما قتلته ولكنه استل مني ، فلم يصدقوه وأرادوا قتله .

[ ص: 374 ]

قال: فإذا لم تصدقوني فأخروني ثلاثة أيام ، فدعا الله فأتي كل رجل ممن كان يحرسه في المنام ، فأخبر أن يوشع لم يقتل موسى ، وأنا قد رفعناه إلينا ، فتركوه ولم يبق ممن أبى أن يدخل قرية الجبارين مع موسى أحد إلا مات ولم يشهد الفتح .

وزعم ابن إسحاق: أن موسى كان قد كره الموت وأعظمه ، فأراد الله أن يحبب إليه الموت ويكره إليه الحياة ، فنبي يوشع وكان يغدو عليه ويروح فيقول له موسى: يا نبي الله ما أحدث الله إليك؟ فيقول له يوشع: يا نبي الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة ، فهل كنت أسألك عن شيء مما أحدث الله إليك حتى تكون أنت الذي تبتدئ به وتذكره؟ فلا يذكر له شيئا .

فلما رأى ذلك موسى كره الحياة وأحب الموت .

وكذلك قال محمد بن كعب القرظي: كان تحويل النبوة إلى يوشع بن نون قبل موت موسى ، وكان يختلف يوشع إلى موسى غدوة وعشية ، فيقول له موسى: يا نبي الله هل أحدث الله إليك اليوم شيئا؟ فيقول له يوشع: يا صفي الله صحبتك من كذا وكذا سنة ، فهل سألتك عن شيء يحدثه الله إليك حتى تكون أنت الذي تبتدئه لي؟ فلما رأى موسى الجماعة عند يوشع أحب الموت .

قال أبو الحسين بن المنادي: هذه العبارة توهم بعض الأغبياء أن موسى غاظه ما رأى ، فأحب الموت؛ إذ ضاق ذرعا بالذي أبصر من منزلة يوشع حين علت . وليس كذلك ، إنما أحب موسى الموت لما رأى له خلفا في أمته كافيا يقوم مقامه فيهم ، فاستطاب حينئذ الموت لما وصفنا لا غير .

وأما استجابة يوشع وامتناع يوشع من إفشائه ما يكون من الله إليه فلم يك من باب التعزز من يوشع ولا من حبه الاقتصار من موسى إليه ، بل هو من استخبار موسى يوشع هل بلغ حد الأمناء الذين يكتمون ما يجب كتمه عن أقرب الناس إليهم وأعزهم عليهم ، فلما ألفى يوشع بالغا هذه المرتبة لم يشك في نهوضه بالوحي واستمكانه من الحال التي أهل لها فهذا الذي أصار موسى إلى السؤال .

ويدل على هذا ما روي عن الحسن أنه ، قال: لما ودع موسى أهله وولده أرسل [ ص: 375 ] إلى يوشع فاستخلفه على الناس ، قال: وكان موسى إنما يستظل في عريش ويأكل ويشرب في نقير من حجر؛ تواضعا لله عز وجل حين أكرمه بكلامه .

قال وهب: ذكر لي أنه كان من أمر وفاته أنه أخرج يوما من عريشه ذلك لبعض حاجته ، فمر برهط من الملائكة يحفرون قبرا ، فعرفهم فأقبل إليهم حتى وقف عليهم فإذا هم يحفرون قبرا لم ير شيئا أحسن منه ولم ير مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة ، فقال لهم: يا ملائكة الله لم تحفرون هذا القبر؟ قالوا: نحفره والله لعبد كريم على الله ، قال: إن هذا العبد من الله لبمنزلة ، ما رأيت كاليوم مضجعا ، قالت الملائكة: يا صفي الله أتحب أن يكون لك؟ قال: وددت ، قالوا: فانزل فاضطجع فيه وتوجه إلى ربك ، ثم تنفس ، فنزل فاضطجع فيه وتوجه إلى ربه ثم تنفس فقبض الله روحه ، ثم سوت عليه الملائكة .

قال مؤلف الكتاب: وفي هذا بعد ، فإن الحديث الصحيح يدل على غير هذا .

أخبرنا ابن الحصين ، قال: أخبرنا ابن المذهب ، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر ، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثنا عبد الرزاق ، قال: حدثنا معمر ، عن همام بن منبه ، قال: حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جاء ملك الموت إلى موسى ، فقال له: أجب ربك ، قال: فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها ، فرجع الملك إلى الله عز وجل وقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني ، قال: فرد الله إليه عينه ، وقال: ارجع إلى عبدي فقل له: إن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما تواريت بيدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة .

[فعاد إليه فأخبره] فقال: ثم مه ، قال: ثم تموت ، قال: فالآن من قريب . قال: يا رب أدنني من الأرض المقدسة رمية حجر" . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لو أني عنده لأريتكم [قبره] إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر" .


[ ص: 376 ] قال أبو عمران الجوني: لما مثل موسى عليه السلام جعل يبكي ويقول: لست أجزع للموت ، ولكني أجزع أن ييبس لساني عن ذكر الله عند الموت .

قال: وكان لموسى ثلاث بنات فدعاهن فقال: يا بناتي ، إن بني إسرائيل سيعرضون عليكن الدنيا بعدي فلا تقبلن منها شيئا ، تلقطن هذا السنبل فافركنه ثم كلنه ، وستبلغن به إلى الجنة .

قال علماء السير: توفي موسى بعد هارون بثلاث سنين ، وأوصى إلى يوشع ، وتوفي بباب لد .

قال أبو جعفر الطبري: كان جميع مدة عمر موسى عليه السلام مائة وعشرين سنة ، عشرون منها في ملك أفريدون ، ومائة منها في ملك منوشهر ، وكان ابتداء أمره منذ بعثه الله نبيا إلى أن قبضه الله في ملك منوشهر .

واختلفوا: هل مات بأرض الشام أم لا على قولين:

أحدهما: أنه توفي بأرض التيه ، وقد روينا عن ابن عباس أنه قال: ماتوا كلهم في التيه وموسى وهارون ، ولم يدخل بيت المقدس إلا يوشع ، وكالب بن يوفنا ، والحديث الذي قدمناه يدل على هذا .

والقول الآخر: لما مضت الأربعون خرج موسى ببني إسرائيل من التيه ، وقال لهم: ادخلوا القرية فكلوا منها حيث شئتم . قاله الربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد .

وقال ابن جرير: وهذا هو الصحيح ، وإن موسى هو الذي فتح قرية الجبارين مع الصالحين من بني إسرائيل؛ لأن أهل السير أجمعوا أن موسى هو قاتل عوج ، وكان عوج ملكهم ، وكان بلعام فيمن سباه ، سباه موسى وقتله .

قال أبو الحسين بن المنادي: وقد قيل: إن اليهود لا تدري أين قبر موسى وهارون ، ولو علموا لاتخذوهما إلهين من دون الله .

[ ص: 377 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية