الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              [ ص: 48 ] الآية الثامنة قوله تعالى : { قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين } .

                                                                                                                                                                                                              فيها أربع مسائل :

                                                                                                                                                                                                              المسألة الأولى : قال علماؤنا : ليست هذه الشهادة من شهادات الأحكام التي تفيد الإعلام عند الحكام ، ويتفرد بعلمها الشاهد فيطلع عليها الحاكم ، وإنما هي بمعنى أخبر عن علم ما كان عنه القوم غافلين ; وذلك أن القميص جرت العادة فيه أنه إذا جذب من خلفه تمزق من تلك الجهة ، وإذا جذب من قدام تمزق من تلك الجهة ، ولا يجذب القميص من خلف اللابس إلا إذا كان مدبرا ، وهذا في الأغلب ، وإلا فقد يتمزق [ القميص بالقلب من ذلك ] إذا كان الموضع ضعيفا .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثانية :

                                                                                                                                                                                                              يتكلم الناس في هذا الشاهد من أربعة أوجه : الأول : الشاهد هو القميص .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أنه كان ابن عمها .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أنه كان من أصحاب العزيز .

                                                                                                                                                                                                              الرابع : أنه كان صبيا في المهد .

                                                                                                                                                                                                              فأما إذا قلنا إنه القميص فكان يصح من جهة اللغة أن يخبر عن حاله بتقدير مقاله ; فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال في بعض الأمور ، وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات بما تخبر عنه بما عليها من الصفات ، ومن أجلاه قول بعضهم : قال [ ص: 49 ] الحائط للوتد : لم تشقني . قال : سل من يدقني ، ما تركني ورأيي هذا الذي ورائي ، ولكن قوله بعد ذلك : { من أهلها } في صفة الشاهد يبطل أن يكون القميص .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إنه ابن عمها أو رجل آخر من أصحاب العزيز ، فإنه محتمل ; لكن قوله : { من أهلها } يعطي اختصاصا من جهة القرابة .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إنه كان صغيرا فهو الذي يروى عن ابن عباس وأنه قد تكلم في المهد أربعة : " عيسى ابن مريم ، وابن ماشطة فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، " ونقصهم اثنان : أحدهما : وهو الذي { ذكر النبي في قصة أصحاب الأخدود أنهم لما حفرت لهم الأرض ، ورمي فيها بالحطب وأوقدت النار عليها ، وعرض عليهم أن يقعوا فيها أو يكفروا الحديث بطوله . فوقفت امرأة منهم ، وكان في ذراعها صبي فقال لها : يا أمه ، إنك على الحق . } وهذا حديث صحيح خرجه مسلم .

                                                                                                                                                                                                              والثاني : ما روي أن امرأة كانت ترضع صبيا في حجرها ، فمر بها رجل له شارة وحوله حفدة ، فقالت : اللهم اجعل ابني مثل هذا ، فترك الصبي الثدي ، وقال : اللهم لا تجعلني مثله ، ومر بامرأة وهم يضربونها ويقولون : سرقت ولم تسرق وزنيت ولم تزن . فقالت : اللهم لا تجعل ابني مثلها ، فترك الصبي الثدي ، وقال : اللهم اجعلني مثلها .

                                                                                                                                                                                                              وأوحى إلى نبي ذلك الزمان أن الأول لا خير فيه ، وأن هذه يقولون فعلت وهي لم تفعل . هذا معنى الحديث .

                                                                                                                                                                                                              فالذي صح فيمن تكلم في المهد أربعة : صاحب الأخدود ، وصاحب جريج [ ص: 50 ] وعيسى ابن مريم ، وهذا الصبي الذي تكلم في حجر المرأة بالرد على أمه فيما اختارته وكرهه .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثالثة :

                                                                                                                                                                                                              قال بعض [ العلماء ] المفسرين : لو كان هذا المشاهد طفلا لكان في كلامه في المهد وشهادته آية ليوسف ، ولم يحتج إلى ثوب ولا إلى غيره . وهذا ضعيف فإنه يحتمل أن يكون الصبي يتكلم في المهد منبها لهم على هذا الدليل الذي كانوا عنه غافلين ، وكانت آية ، كما قال : تبينت بها براءة يوسف من الوجهين : من جهة نطق الصبي ، ومن جهة ذكر الدليل .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية