الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وأقسموا بالله جهد أيمانهم " سبب نزولها أن رجلا من المسلمين كان له على رجل من المشركين دين ، فأتاه يتقاضاه ، فكان فيما تكلم به : والذي [ ص: 447 ] أرجوه بعد الموت ، فقال المشرك : وإنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت ؟! فأقسم بالله " لا يبعث الله من يموت " ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو العالية . و " جهد أيمانهم " مفسر في (المائدة :53) . وقوله : " بلى " رد عليهم ، قال الفراء : والمعنى : " بلى " ليبعثنهم " وعدا عليه حقا " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ليبين لهم الذي يختلفون فيه " قال الزجاج : يجوز أن يكون متعلقا بالبعث ، فيكون المعنى : بلى يبعثهم فيبين لهم ، ويجوز أن يكون متعلقا بقوله تعالى : " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا " ليبين لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وللمفسرين في قوله " ليبين لهم " قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنهم جميع الناس ، قاله قتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنهم المشركون ، يبين لهم بالبعث ما خالفوا المؤمنين فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " أنهم كانوا كاذبين " أي : فيما أقسموا عليه من نفي البعث . ثم أخبر بقدرته على البعث بقوله : " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة : " فيكون " رفعا ، وكذلك في كل القرآن . وقرأ ابن عامر ، والكسائي " فيكون " نصبا . قال مكي بن إبراهيم : من رفع ، قطعه عما قبله ، والمعنى : فهو يكون ، ومن نصب ، عطفه على " يقول " ، وهذا مثل قوله : وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وقد فسرناه في (البقرة :117) .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل : كيف سمي الشيء قبل وجوده شيئا ؟

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب : أن الشيء وقع على المعلوم عند الله قبل الخلق ، لأنه بمنزلة ما قد عوين وشوهد .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " والذين هاجروا في الله " اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 448 ] أحدها : أنها نزلت في ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بلال ، وعمار ، وصهيب ، وخباب بن الأرت ، وعايش وجبر موليان لقريش ، أخذهم أهل مكة فجعلوا يعذبونهم ، ليردوهم عن الإسلام ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنها نزلت في أبي جندل بن سهيل بن عمرو ، قاله داود بن أبي هند .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أنهم جميع المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله قتادة . ومعنى " هاجروا في الله " ، أي : في طلب رضاه وثوابه " من بعد ما ظلموا " بما نال المشركون منهم ، " لنبوئنهم في الدنيا حسنة " وفيها خمسة أقوال :أحدها : لننزلنهم المدينة ، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والشعبي ، وقتادة ، فيكون المعنى : لنبوئنهم دارا حسنة وبلدة حسنة . والثاني : لنرزقنهم في الدنيا الرزق الحسن ، قاله مجاهد . والثالث : النصر على العدو ، قاله الضحاك . والرابع : أنه ما بقي بعدهم من الثناء الحسن ، وصار لأولادهم من الشرف ، ذكره الماوردي ، وقد روي معناه عن مجاهد ، فروى عنه ابن أبي نجيح أنه قال : " لنبوئنهم في الدنيا حسنة " قال : لسان صادق . والخامس : أن المعنى : لنحسنن إليهم في الدنيا ، قال بعض أهل المعاني : فتكون على هذه الأقوال " لنبوئنهم " ، على سبيل الاستعارة ، إلا على القول الأول .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ولأجر الآخرة أكبر " قال ابن عباس : يعني : الجنة ، " لو كانوا يعلمون " يعني : أهل مكة .

                                                                                                                                                                                                                                      ونقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أنه كان إذا أعطى الرجل من [ ص: 449 ] المهاجرين عطاءه ، قال : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ذخر لك في الآخرة أفضل ، ثم يتلو هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إن الله أثنى عليهم ومدحهم بالصبر فقال : " الذين صبروا " أي : على دينهم ، لم يتركوه لأذى نالهم ، وهم في ذلك واثقون بربهم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية