الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
521 [ ص: 140 ] حديث خامس عشر لهشام بن عروة

مالك عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة .

التالي السابق


هذا أثبت حديث يروى في كفن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الأصل في كفن الرجل الميت ، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثوب حبرة ، وقد روي أنه كفن في ريطتين وبرد نجراني وهذا غير صحيح ; لأن عائشة قالت : أخر عنه البرد .

حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : قال حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : حدثنا الأوزاعي قال : حدثنا الزهري عن القاسم بن محمد ، عن عائشة قالت : أدرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثوب حبرة ، ثم أخر عنه .

وقد روي من حديث أهل اليمن عن وهب بن منبه عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا توفي أحدكم فوجد شيئا فليكفن في برد حبرة .

وأما قوله في هذا الحديث : بيض سحولية فالسحولية ثياب قطن تصنع ظاهرا ، وقيل : السحولية البيض ، قال المسيب بن علس :


في الآل يخفضها ويرفعها ريع يلوح كأنه سحل

.

[ ص: 141 ] والسحل الثوب الأبيض يشبه الطريق به ، ويقال : سحول : قرية باليمن .

حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا يحيى بن سعيد عن هشام بن عروة قال : أخبرني أبي قال : أخبرتني عائشة قالت : كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة .

ورواه حفص بن غياث عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة وزاد : من كرسف قال : فذكر لعائشة قولهم في ثوبين وبرد حبرة فقالت : أتي بالبرد ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه ، وكذلك روى الثوري عن هشام في هذا الحديث أنها من كرسف والكرسف القطن .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان وأحمد بن قاسم قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب سحول كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة .

وحدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا سليمان بن حرب قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 142 ] في ثلاثة أثواب سحولية بيض يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة ، وكان عبد الله بن أبي بكر قد أعطاهم حلة حبرة فأدرجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها ، ثم استخرجوه منها .

قال إسماعيل : وحدثنا هدبة بن خالد قال : حدثنا ابن المبارك عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : ذكر لعائشة فقالت : نحن أعلم إنما تلك الحلة كانت لعبد الله بن أبي بكر أرادوا أن يكفنوه فيها فلم يفعلوا ، كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب بيض سحولية .

قال أبو عمر : هذه الآثار الصحاح ترد حديث يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس قال : كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب في قميصه الذي مات فيه وحلة له نجرانية ، وكيف يكفن في قميصه وعائشة تقول ليس فيها قميص ؟ وحديثها من جهة الإسناد أثبت ، وقد بانت فيه حلة البرد وأنه لم يتم تكفينه فيه فهذه زيادة يجب قبولها والمصير إليها أولى ، والله أعلم .

وأما الفقهاء فأكثرهم يستحبون في الكفن ما في هذا الحديث ، وكلهم في الكفن شيئا واجبا لا يجوز غيره وما كفن فيه الميت منها يواري عورته ويستره أجزأ .

قال مالك - رحمه الله - : ليس في كفن الميت حد ، ويستحب الوتر ، وفي رواية أخرى عنه أحب إلي أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب ويعمم ، ولا أحب أن يكفن في أقل من ثلاثة أثواب .

[ ص: 143 ] وقال أبو حنيفة وأصحابه : أدنى ما تكفن فيه المرأة ثلاثة أثواب ، والسنة فيها خمسة ، والرجل في ثوبين والسنة فيه ثلاثة .

وقال الأوزاعي والثوري : يكفن الرجل في ثلاثة أثواب والمرأة في خمسة ، وهو أحد قولي الشافعي ، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور ، وروي عن الشافعي أيضا أنه قال : أحب إلي أن لا يجاوز خمسة أثواب في كفن المرأة والثوب يجزئ . واستحب ابن علية القميص في الكفن .

قال أبو عمر : قولهم في هذا الباب كله استحسان والأصل ما ذكرت لك ، وقد كفن أبو بكر في ثوبين وثوب كان يلبسه باليا رواه عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه وهشام بن عروة ، عن أبيه ، وكان ابن عمر يعمم الميت ويسدل طرف العمامة على وجهه رواه معمر ، عن أيوب عن نافع ورواه ابن جريج ، وعبد الله عن نافع عن ابن عمر .

وروى مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : الميت يقمص ويؤزر ويلف في الثياب ، فإن لم يكن إلا ثوب واحد لف فيه .

وروى أيوب عن نافع أن ابن عمر كفن ابنه واحدا في خمسة أثواب : قميص ، وثلاث لفائف ، وعمامة ، وعممه من تحت لحيته .

وأجمعوا أن حمزة كفن في ثوب واحد ، وأن مصعب بن عمير كفنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثوب واحد ، وهذا كله يوضح لك أن ما حد من العدد في الكفن استحسان واستحباب ، فمن وجد فليستعمل ما استحبوا ، ومن لم يجد أجزأه ما ستره .

[ ص: 144 ] وقيل لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - : ألا تشتري لك ثوبا جديدا ؟ فقال : الحي أحوج إلى الجديد من الميت ، إنما هو للمهلة كفنوني في ثوبي هذا واغسلوه ، وكان به مشق مع ثوبين آخرين . قال ابن حبيب : المهلة بكسر الميم صديد الجسد ، والمهلة بضم الميم عكر الزيت ، ومنه قوله - عز وجل - : ( بماء كالمهل ) والمهلة بضم الميم التمهل .

وأخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال : حدثنا عمرو بن هشام أبو مالك الجنبي ، عن إسماعيل بن خالد ، عن عامر ، عن علي بن أبي طالب قال : لا تغالوا في كفن ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا تغالوا في الكفن ، فإنه يسلب سلبا سريعا .

قال أبو عمر : استحب مالك أن يعمم الميت ، وزعم أصحابه أن العمامة عندهم معروفة بالمدينة في كفن الرجل ، قالوا : وكذلك الخمار للمرأة ، وكذلك استحب مالك أيضا أن يقمص الميت ، وأما الشافعي فقال : أحب الكفن إلي ثلاثة أثواب : لفائف بيض ليس فيها قميص ولا عمامة ، فإن ذلك الذي اختاره الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - واختاره له أصحابه رحمهم الله .

وقال عيسى بن دينار : لا ينبغي لمن ( لم ) يجد أن ينقص الميت من ثلاثة أثواب يدرج فيها إدراجا لا يجعل له إزارا ولا عمامة ، ولكن يدرج كما [ ص: 145 ] أدرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ينبغي أن يزاد الرجل على ثلاثة أثواب ، وينبغي لمن يجد أن لا ينقص المرأة من خمسة أثواب : درع وخمار وثلاث لفائف ، أما الخمار فيخمر به رأسها ، وأما الدرع فيفتح في وسطه ، ثم تلبسه ، ولا يخاط في جوانبه ، وأحد اللفائف يلف على حجزتها وفخذيها حتى يستوي ذلك منها بسائر جسدها ، ثم تدرج في اللفافتين الباقيتين كما يدرج الرجل .

قال أبو عمر : أما اللفافة التي تلف على حجزتها فهو المئزر الذي تشعر به يلي جلدها ، وهو النطاق عند أهل العلم ، وقد ذكرناه عند قوله - صلى الله عليه وسلم - : أشعرنها إياه في حديث أيوب ، وجمهور الفقهاء على أن الكفن من رأس المال .

قال عيسى بن دينار : يجبر الغرماء والورثة على ثلاثة أثواب من مال الميت تكون من أوسط ثيابه التي كانت تترك عليه لو أفلس .

قال أبو عمر : خير ما كفن فيه الموتى البياض من الثياب ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : قال : خير ثيابكم البياض ، فكفنوا فيها أمواتكم وليلبسها أحياؤكم .

والحبرة محمود أيضا في الكفن لمن قدر عليه ، ويكره الخز والحرير والثوب الرقيق الذي يصف والمصبوغ كله غيره أفضل منه وما كفن فيه الميت مما ستر العورة ووارى أجزأ ، وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية