الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 225 ] الطائفة من أهل الكتاب هم يهود بني النضير وقريظة وبني قينقاع حين دعوا جماعة من المسلمين إلى دينهم وسيأتي ، وقيل : هم جميع أهل الكتاب ، فتكون من لبيان الجنس .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وما يضلون إلا أنفسهم جملة حالية للدلالة على ثبوت قدم المؤمنين في الإيمان ، فلا يعود وبال من أراد فتنتهم إلا عليه . والمراد بآيات الله ما في كتبهم من دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم . وأنتم تشهدون ما في كتبكم من ذلك ، أو تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء الذين تقرون بنبوتهم ، أو المراد كتم كل الآيات عنادا وأنتم تعلمون أنها حق .

                                                                                                                                                                                                                                      ولبس الحق بالباطل خلطه بما يتعمدونه من التحريف وأنتم تعلمون جملة حالية . قوله : وقالت طائفة من أهل الكتاب هم رؤساؤهم وأشرافهم ، قالوا للسفلة من قومهم هذه المقالة . ووجه النهار : أوله ، وسمي وجها لأنه أحسنه قال :


                                                                                                                                                                                                                                      وتضيء في وجه النهار منيرة كجمانة البحري سل نظامها

                                                                                                                                                                                                                                      وهو منصوب على الظرف ، أمروهم بذلك لإدخال الشك على المؤمنين ، لكونهم يعتقدون أن أهل الكتاب لديهم علم ، فإذا كفروا بعد الإيمان وقع الريب لغيرهم واعتراه الشك وهم لا يعلمون أن الله قد ثبت قلوب المؤمنين ومكن أقدامهم ، فلا تزلزلهم أراجيف أعداء الله ، ولا تحركهم ريح المعاندين .

                                                                                                                                                                                                                                      ‌ قوله : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم هذا من كلام اليهود بعضهم لبعض ; أي : قال ذلك الرؤساء للسفلة لا تصدقوا تصديقا صحيحا إلا لمن تبع دينكم من أهل الملة التي أنتم عليها ، وأما غيرهم ممن قد أسلم فأظهروا لهم ذلك خداعا وجه النهار واكفروا آخره ليفتتنوا ، ويكون قوله : أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم على هذا متعلقا بمحذوف ; أي : فعلتم ذلك لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم : يعني أن ما بكم من الحسد والبغي أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : أو يحاجوكم معطوف على أن يؤتى ; أي : لا يؤمنوا إيمانا صحيحا وتقروا بما في صدوركم إقرارا صادقا لغير من تبع دينكم ، فعلتم ذلك ودبرتموه أن المسلمين يحاجوكم يوم القيامة عند الله بالحق . وقوله : إن الهدى هدى الله جملة اعتراضية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأخفش : المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، ولا تصدقوا أن يحاجوكم ، فذهب إلى أنه معطوف ، وقيل : المراد لا تؤمنوا وجه النهار وتكفروا آخره إلا لمن تبع دينكم ; أي : لمن دخل في الإسلام وكان من أهل دينكم قبل إسلامه ; لأن إسلام من كان منهم هو الذي قتلهم غيظا وأماتهم حسرة وأسفا ، ويكون قوله : أن يؤتى على هذا متعلقا بمحذوف كالأول ، وقيل : إن قوله : أن يؤتى متعلق بقوله : لا تؤمنوا أي لا تظهروا إيمانكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أي أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ، ولا تفشوه إلا لأتباع دينكم ، وقيل : المعنى : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتوه ، فتكون على هذا أن وما بعدها في محل رفع على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره تصدقون بذلك ، ويجوز أن تكون في محل نصب على إضمار فعل تقديره تقرون أن يؤتى ، وقد قرأ آن يؤتى بالمد ابن كثير وابن محيصن وحميد . وقال الخليل : أن في موضع خفض والخافض محذوف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن جريج : المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى ، وقيل المعنى : لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا من تبع دينكم ، لئلا يكون ذلك سببا لإيمان غيرهم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم . وقال الفراء : يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله : إلا لمن تبع دينكم ثم قال لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم : قل إن الهدى هدى الله أي : إن البيان الحق بيان الله بين أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم على تقدير لا كقوله تعالى : يبين الله لكم أن تضلوا [ النساء : 176 ] أي : لئلا تضلوا ، وأو في قوله : أو يحاجوكم بمعنى حتى ، وكذلك قال الكسائي ، وهي عند الأخفش عاطفة كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إن هدى الله بدل من الهدى ، وأن يؤتى خبر إن على معنى قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم . وقد قيل : إن هذه الآية أعظم آي هذه السورة إشكالا وذلك صحيح .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن يؤتي بكسر التاء الفوقية . وقرأ سعيد بن جبير إن يؤتى بكسر الهمزة على أنها النافية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : يختص برحمته من يشاء قيل : هي النبوة ، وقيل : أعم منها ، وهو رد عليهم ودفع لما قالوه ودبروه . وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سفيان قال : كل شيء في آل عمران من ذكر أهل الكتاب فهو في النصارى ، ويدفع هذا أن كثيرا من خطابات أهل الكتاب المذكورة في هذه السورة لا يصح حملها على النصارى ألبتة ، ومن ذلك هذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها ، فإن الطائفة التي ودت إضلال المسلمين وكذلك الطائفة القائلة آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار هي من اليهود خاصة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : ياأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون قال : تشهدون أن نعت نبي الله محمد في كتابكم ، ثم تكفرون به وتنكرونه ولا تؤمنون به وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل النبي الأمي . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرجا أيضا عن السدي نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج وأنتم تشهدون على أن الدين عند الله الإسلام ليس لله دين غيره . وأخرجا عن الربيع في قوله : لم تلبسون الحق بالباطل يقول : لم تخلطون اليهودية والنصرانية بالإسلام ، وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره الإسلام وتكتمون الحق يقول : تكتمون شأن محمد وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة مثله . [ ص: 226 ] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قال عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف بعضهم لبعض : تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشية حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعون عن دينهم ، فأنزل الله فيهم ياأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل إلى قوله : والله واسع عليم وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة من طريق أبي ظبيان عن ابن عباس في قوله : وقالت طائفة الآية ، قال : كانوا يكونون معهم أول النهار ويجالسونهم ويكلمونهم ، فإذا أمسوا وحضرت الصلاة كفروا به وتركوه . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قال : هذا قول بعضهم لبعض .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله . وأخرج أيضا عن السدي نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حسدا من يهود أن تكون النبوة في غيرهم ، وإرادة أن يتابعوا على دينهم . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي مالك وسعيد بن جبير أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قال : أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد أو يحاجوكم عند ربكم يقول اليهود : فعل الله بنا كذا وكذا من الكرامة حتى أنزل علينا المن والسلوى ، فإن الذي أعطيتكم أفضل فقولوا : قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يقول : لما أنزل الله كتابا مثل كتابكم وبعث نبيا كنبيكم حسدتموه على ذلك قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله . وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يقول : هذا الأمر الذي أنعم الله عليه أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قال : قال بعضهم لبعض : لا تخبروهم بما بين الله لكم في كتابه ليحاجوكم قال : ليخاصموكم به عند ربكم فتكون لهم حجة عليكم قل إن الفضل بيد الله قال : الإسلام يختص برحمته من يشاء قال : القرآن والإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد يختص برحمته من يشاء قال : النبوة . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : رحمته الإسلام يختص بها من يشاء .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية