الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
862 حديث تاسع وثلاثون لهشام .

مالك ، عن هشام بن عروة ، ، عن أبيه أن صاحب هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يا رسول الله ، كيف أصنع بما عطب من الهدي ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كل بدنة عطبت من الهدي فانحرها ثم ألق قلائدها في دمها ، ثم خل بين الناس وبينها يأكلونها .

التالي السابق


هذا حديث مرسل في الموطأ ، وهو في غير الموطأ مسند ؛ لأن جماعة من الحفاظ رووه ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن ناجية الأسلمي صاحب بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وغير نكير أن يسمع عنه عروة .

حدثنا محمد بن عبد الله بن حكم قال : حدثنا محمد بن معاوية بن عبد الرحمن قال : حدثنا الفضل بن الحباب القاضي بالبصرة أبو خليفة قال : حدثنا محمد بن كثير قال : حدثنا سفيان بن سعيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن ناجية الأسلمي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معه بهدي قال : إن عطب فانحره ثم اصبغ نعله في دمه ثم خل بينه وبين الناس .

[ ص: 264 ] حدثنا أحمد بن عبد الله قال : حدثنا الميمون بن حمزة قال : حدثنا الطحاوي قال : حدثنا المدني قال : حدثنا الشافعي قال : أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن ناجية صاحب بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : يا رسول الله ، كيف أصنع بما عطب من الهدي ؟ قال : انحره ثم اغمس قلائده في دمه ، ثم اضرب بها صفحة عنقه ، ثم خل بينه وبين الناس .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا وهب بن خالد قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن ناجية صاحب هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيف يصنع بما عطب من الهدي ؟ فأمره أن ينحر كل بدنة عطبت ثم يلقي حبلها في دمها ويخلي بينها وبين الناس يأكلونها كذا وقع عنده حبلها في دمها ، وإنما هو نعلها في دمها .

وناجية هذا هو ناجية بن جندب الأسلمي ، وقد ذكرناه ورفعنا في نسبه في كتاب الصحابة .

وروى ابن عباس هذا الحديث ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزاد فيه : ولا تأكل منها أنت ، ولا أحد من رفقتك وسنذكره هاهنا إن شاء الله .

وفي هذا الحديث من الفقه أن الهدي يقلد ، وأن التقليد من شأنه وسنته ، والتقليد أن يعلق في عنق البدن نعل علامة ليعرف أنها هدي .

وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلد هديه نعلين ، وكذلك كان ابن عمر يفعل ، وبه قال الشافعي واستحسنه ، والنعل عندي تجزئ ، وهو قول مالك والزهري وجماعة العلماء ، كلهم لا يختلفون في تقليد الهدي ويجزئ عند جميعهم نعل واحدة ، والذي أجمعوا عليه من تقليد الهدي الإبل والبقر ، واختلفوا في [ ص: 265 ] تقليد الغنم ، فكان مالك وأبو حنيفة وأصحابهم ينكرون تقليد الغنم ، وأجاز تقليده الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور لقول عائشة : كنت أقلد الغنم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو قول عطاء وجماعة ، وقد مضى في هذا الكتاب في باب عبد الله بن أبي بكر القول في تقليد الهدي ، هل يوجب على صاحبه أن يكون محرما لذلك أم لا ؟ والصحيح في ذلك حديث عائشة على ما ذكرناه هناك من أحسن طرقه ما أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا يزيد بن خالد وقتيبة بن سعيد أن الليث حدثهم ، عن ابن شهاب ، عن عروة وعمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهدي من المدينة فأفتل قلائد هديه ثم لا يجتنب شيئا مما يجتنبه المحرم .

وأما قوله : كيف أصنع بما عطب من الهدي ؟ فجاوبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر في حديث هشام هذا ، فإن هذا محمله عند العلماء على الهدي التطوع ، وكذلك كان هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطوعا ؛ لأنه كان في حجته مفردا ، والله أعلم .

وقد ذكرنا الاختلاف عنه في ذلك في باب ابن شهاب وغيره ، والهدي التطوع لا يجوز لأحد ساقه أكل شيء منه إذا عطب قبل أن يبلغ محله ، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى أكل الهدي قبل محله ، من أجل أنه تطوع فينصرف من الناس من لم تصح نيته فيما أخرجوه لله ، ويعتلون بأنه عطب .

ذكر أبو ثابت وأسد وسحنون وابن أبي الغمر ، ، عن ابن القاسم قلت لابن القاسم : أرأيت هدي التطوع إذا عطب كيف يصنع به صاحبه في قول مالك ؟ قال : قال مالك : يرمي بقلائده في دمه إذا نحره ويخلي بين الناس وبينه ، ولا يأمر أحدا أن يأكل منه فقيرا ولا غنيا ، فإن أكل هو أو أمر أحدا من الناس [ ص: 266 ] بأكله أو حز شيئا من لحمه ، كان عليه البدل . قال ابن القاسم : وقال مالك : كل هدي إذا عطب فليأكل منه صاحبه وليطعم منه الأغنياء والفقراء ومن أحب ، ولا يبيع من لحمه ولا من جلده ولا من قلائده شيئا .

قال مالك : ومن الهدي المضمون ما إن عطب قبل أن يبلغ محله جاز له أن يأكل منه ، وهو إن بلغ محله لم يأكل منه ، وهو جزاء الصيد وفدية الأذى ونذر المساكين ، فهذا إن عطب قبل محله جاز له أن يأكل منه ؛ لأن عليه بدله ، وإذا بلغ محله أجزأه عن الذي ساقه ، ولا يجزيه أن يأكل منه .

قال إسماعيل بن إسحاق : لأن الهدي المضمون إذا عطب قبل أن يبلغ محله كان عليه بدنة ، وبذلك جاز له أن يأكل منه ولا يطعم ؛ لأنه لما لم يكن عليه بدله خيف أن يفعل ذلك بالهدي وينحر من غير أن يعطب ، فاحتيط على الناس ، وبذلك مضى العمل في هدي التطوع إذا عطب في الطريق ؛ نحره صاحبه وخلى بينه وبين الناس .

وذكر إسماعيل بن إسحاق حديث هشام هذا عن أبيه ، عن ناجية وحديث ابن عباس ، عن ذؤيب الخزاعي .

قال أبو عمر : أما حديث ناجية فقد تقدم ذكره ، وأما حديث ابن عباس فاختلف فيه عنه ، فطائفة روت عنه ما يدل على أن ناجية الأسلمي حدثه ، وطائفة روت عنه أن ذؤيبا الخزاعي حدثه ، وذؤيب هذا هو والد قبيصة بن ذؤيب ، وربما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضا معه هديا فسأله كما سأله ناجية ، فالله أعلم .

حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد قال : حدثنا الميمون بن حمزة قال : حدثنا الطحاوي قال : حدثنا المزني قال : حدثنا الشافعي قال : أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم - يعني ابن علية - قال : حدثنا أبو التياح ، عن موسى بن سلمة ، ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بثمان عشرة مع رجل فأمره فيها [ ص: 267 ] بأمر ، فانطلق ثم رجع إليه فقال : أرأيت إن عطب منه شيء ؟ قال : فانحرها ثم اصبغ نعلها في دمها ، ثم اجعلها على صفحتها ، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك .

أخبرنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا سليمان بن حرب قال : حدثنا حماد بن زيد قال : حدثنا أبو التياح ، عن موسى بن سلمة قال : خرجت أنا وسنان بن سلمة ومعنا بدنتان ، فأزحفتا علينا بالطريق ، فلما قدمنا مكة أتينا ابن عباس فسألناه ، فقال : على الخبير سقطت بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلانا الأسلمي وبعث معه بثمان عشرة ، فقال : يا رسول الله ، أرأيت إن أزحف علي منها شيء بالطريق ؟ قال : تنحرها وتصبغ نعلها ، أو قال : تغمس نعلها في دمها فتضرب بها على صفحتها ، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك .

وروى شعبة وسعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سنان بن سلمة ، ، عن ابن عباس أن ذؤيبا الخزاعي حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث معه بالبدن ثم يقول : إذا عطب شيء منها فخشيت عليه موتا فانحره ثم اغمس نعله في دمه ، ثم اضرب صفحته ولا تطعم منها ولا أحد من أهل رفقتك .

قال أبو عمر : ( قوله ) ولا أحد من أهل رفقتك ، لا يوجد إلا في حديث ابن عباس هذا بهذا الإسناد ، عن موسى بن سلمة وسنان بن سلمة ، وليس ذلك في حديث هشام بن عروة ، عن أبي ، عن ناجية ، وهذا عندنا أصح من حديث ابن عباس ، عن ذؤيب وعليه العمل عند الفقهاء ، ومن جهة النظر أهل رفقته وغيرهم في ذلك [ ص: 268 ] سواء ، ويدخل في قوله - عليه السلام - : وخل بين الناس وبينه يأكلونه أهل رفقته وغيرهم ، وإنما الضمان على من أكل من هديه التطوع وإن لم يكن موجودا في الحديث المسند ، فإن ذلك عن الصحابة والتابعين ، وعليه جماعة فقهاء الأمصار .

وروي عن عمر وعلي وابن مسعود إن أكل من الهدي التطوع غرم ، وعن ابن عباس : إن اختلفا أو أمرت بأكله غرمت ، وعن ابن المسيب مثله سواء من رواية مالك ، عن ابن شهاب .

وروى ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ، ، عن ابن المسيب قال : مضت السنة إذا أصيبت البدنة تطوعا في الطريق أن ينحرها ويغمس قلائدها ( في دمها ) ثم لا يأكل منها ، ولا يطعم ، ولا يقسم ، فإن فعل شيئا من ذلك ضمن .

وعن ابن عمر وابن عباس وعطاء والنخعي في الهدي الواجب يعطب قالوا : كل إن شئت إذا نحرته وعليك البدل .

وأما اختلاف الفقهاء في هذه المسألة ، فقال مالك : ما عطب من الهدي قبل أن يبلغ محله ، فإن كان واجبا أكل منه إن شاء وأبدله ، وإن كان تطوعا نحره ثم صبغ قلائده في دمه وخلى بين الناس وبينه ولم يأكل ولم يطعم ولم يتصدق ، فإن أكل أو أطعم أو تصدق ضمن ، وهو قول الشافعي والأوزاعي والثوري إلا أنهم قالوا : يضمن ما أكل أو أطعم أو تصدق ، وليس عليه البدل إلا لما أتلف ، فإن أتلفه كله ضمنه كله . وكذلك قال أبو حنيفة أيضا ، إلا أنه قال : يتصدق بالهدي التطوع إذا عطب أفضل من أن يتركه فتأكله السباع ، قال : ولو أطعم منه غنيا ضمن ، وقال في الهدي الواجب : لا بأس أن [ ص: 269 ] يبيع لحمه . وهو قول عطاء يستعين به في ثمن هدي ، وهؤلاء لا يرون بيعه .

واختلفوا فيما يؤكل من الهدي إذا بلغ محله ، فقال مالك : يؤكل من الهدي كله إذا بلغ محله إلا جزاء الصيد ونسك الأذى وما نذر للمساكين ، وقال الشافعي : لا يؤكل من الهدي كله شيء إذا بلغ محله إلا بالتطوع وحده ، فأما الهدي الواجب فلا يأكل شيئا منه ، وقال أبو حنيفة : يؤكل من هدي المتعة والقران والتطوع ، ولا يؤكل مما سواه ، وقال الثوري : يؤكل من هدي المتعة والإحصار والوصية والتطوع .




الخدمات العلمية