الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة أي ما يتزين به من اللباس والمراكب ونحوها وتستعمل مصدرا وأموالا أنواعا كثيرة من المال كما يشعر به الجمع والتنوين، وذكر ذلك بعد الزينة من ذكر العام بعد الخاص للشمول وقد يحمل على ما عداه بقرينة المقابلة وفسر بعضهم الزينة بالجمال وصحة البدن وطول القامة ونحوه في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك أي لكي يضلوا عنها وهو تعليل للإيتاء السابق، والكلام إخبار من موسى عليه السلام بأن الله تعالى إنما أمدهم بالزينة والأموال استدراجا ليزدادوا إثما وضلالة كما أخبر سبحانه عن أمثالهم بقوله سبحانه: إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وإلى كون اللام للتعليل ذهب الفراء والظاهر أنه حقيقة فيكون ذلك الضلال مراد الله تعالى ولا يلزم ما قاله المعتزلة من أنه إذا كان مرادا يلزم أن يكونوا مطيعين به بناء على أن الإرادة أمر أو مستلزم له لما أنه قد تبين بطلان هذا المبنى في الكلام، وقدر بعضهم حذرا من ذلك لئلا يضلوا كما قدر في شهدنا أن تقولوا شهدنا أن لا تقولوا ولا حاجة إليه وقيل: إن التعليل مجازي لأنهم لما ضلوا بسبب ذلك جعل إيتاؤه كأنه للضلال فيكون في اللام استعارة تبعية، وقال الأخفش: اللام للعاقبة فيكون ذلك إخبارا منه عليه السلام لممارسته لهم وتفرسه بهم أو لعلمهم بالوحي على ما قيل بأن عاقبة ذلك الإيتاء الضلال .

                                                                                                                                                                                                                                      والفرق بين التعليل المجازي وهذا إن قلنا بأنه معنى مجازي أيضا أن في التعليل ذكر ما هو سبب لكن لم يكن إيتاؤه لكونه سببا وفي لام العاقبة لم يذكر سبب أصلا وهي كاستعارة أحد الضدين للآخر، وقال ابن الأنباري: إنها للدعاء، ولا مغمز على موسى عليه السلام في الدعاء عليهم بالضلال إما لأنه عليه السلام علم بالممارسة أو نحوها أنه كائن لا محالة فدعا به وحاصله أنه دعاء بما لا يكون إلا ذلك فهو تصريح بما جرى قضاء الله تعالى به، ونحوه لعن الله تعالى الشيطان وإما لأنه ليس بدعاء حقيقة وليس النظر إلى تنجيز المسؤول وعدمه بل النظر إلى وصفهم بالعتو وإبلاء عذره عليه السلام في الدعوة فهو كناية إيمائية على هذا وما قيل: هذا شهادة بسوء حالهم بطريق الكناية في الكناية لأن الضلال رديف الإضلال وهو منع اللطف فكني بالضلال عن الإضلال والإضلال رديف كونهم كالمطبوع عليهم فكان هذا كشفا وبيانا لحالهم بطريق الكناية فهو على ما فيه شيء عنه غنى لأن الطبع مصرح به بعد بل النظر ههنا إلى الزبدة والخلاصة من هذه المطالب كلها، ويشعر كلام الزمخشري باختيار كونها للدعاء وفي الانتصاف أنه اعتزال أدق من دبيب النمل يكاد الاطلاع عليه يكون كشفا والظاهر أنها للتعليل، وقال صاحب الفرائد: لولا التعليل لم يتجه قوله: إنك آتيت فرعون وملأه زينة ولم ينتظم [ ص: 173 ] وأورد عليه أيضا أنه ينافي غرض البعثة وهو الدعوة إلى الإيمان والهدى ولا يخفى أن دفع هذا يعلم مما قدمنا آنفا، وأما وجه انتظام الكلام فهو كما قال غير واحد: إن موسى عليه السلام ذكر قوله: إنك آتيت إلخ تمهيدا للتخلص إلى الدعاء عليهم أي أنك أوليتهم هذه النعمة ليعبدوك ويشكروك فما زادهم ذلك إلا طغيانا وكفرا وإذا كانت الحال هذه فليضلوا عن سبيلك، ولو دعا ابتداء لم يحسن إذ ربما لم يعذر فقدم الشكاية منهم والنعي بسوء صنيعهم ليتسلق منه إلى الدعاء مع مراعاة تلازم الكلام من إيراد الأدعية منسوقة نسقا واحدا وعدم الاحتياج إلى الاعتذار عن تكرير النداء كما احتاج القول بالتعليل إلى الاعتذار عنه بأنه للتأكيد وللإشارة إلى أن المقصود عرض ضلالهم وكفرانهم تقدمة للدعاء عليهم بعد . وادعى الطيبي أنه لا مجال للقول بالاعتراض لأنه إنما يحسن موقعه إذا التذت النفس بسماعه ولذا عيب قول النابغة لعل زيادا لا أبا لك غافل

                                                                                                                                                                                                                                      وفي كلامه ميل إلى القول بأن اللام للدعاء وهو لدى المنصف خلاف الظاهر وما ذكروه له لا يفيده ظهورا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ (ليضلوا) بضم الياء وفتحها ربنا اطمس على أموالهم أي أهلكها كما قال مجاهد ، فالطمس بمعنى الإهلاك وفعله من باب ضرب ودخل، ويشهد له قراءة (اطمس) بضم الميم ويتعدى ولا يتعدى، وجاء بمعنى محو الأثر والتغيير وبهذا فسره أكثر المفسرين قالوا: المعنى ربنا غيرها عن جهة نفعها إلى جهة لا ينتفع بها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأنت تعلم أن تغييرها عن جهة نفعها إهلاك لها أيضا فلا ينافي ما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك أنه بعد هذا الدعاء صارت دراهمهم ودنانيرهم ونحاسهم وحديدهم حجارة منقوشة . وعن محمد القرظي قال: سألني عمر بن عبد العزيز عن هذه الآية فأخبرته أن الله تعالى طمس على أموال فرعون وآل فرعون حتى صارت حجارة فقال عمر: مكانك حتى آتيك فدعا بكيس مختوم ففكه فإذا فيه البيضة مشقوقة وهي حجارة وكذا الدراهم والدنانير وأشباه ذلك . وفي رواية عنه أنه صار سكرهم حجارة وأن الرجل بينما هو مع أهله إذ صارا حجرين وبينما المرأة قائمة تخبز إذ صارت كذلك، وهذا مما لا يكاد يصح أصلا، وليس في الآية ما يشير إليه بوجه، وعندي أن أخبار تغيير أموالهم إلى الحجارة لا تخلو عن وهن فلا يعول عليها، ولعل الأولى أن يراد من طمسها إتلافها منهم على أتم وجه والمراد بالأموال ما يشمل الزينة من الملابس والمراكب وغيرها واشدد على قلوبهم أي اجعلها قاسية واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان كما هو قضية شأنهم فلا يؤمنوا جواب للدعاء أعني اشدد دون اطمس فهو منصوب، ويحتمل أن يكون دعاء بلفظ النهي نحو إلهي لا تعذبني فهو مجزوم، وجوز أن يكون عطفا على ليضلوا وما بينهما دعاء معترض فهو حينئذ منصوب أو مجزوم حسبما علمت من الخلاف في اللام حتى يروا العذاب الأليم 88 أي يعاينوه ويوقنوا به بحيث لا ينفعهم ذلك إذ ذاك، والمراد به جنس العذاب الأليم وأخرج غير واحد عن ابن عباس تفسيره بالغرق .

                                                                                                                                                                                                                                      واستدل بعضهم بالآية على أن الدعاء على شخص بالكفر لا يعد كفرا إذا لم يكن على وجه الاستيجاز والاستحسان للكفر بل كان على وجه التمني لينتقم الله تعالى من ذلك الشخص أشد انتقام وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام خواهرزاده فقولهم: الرضا بكفر الغير ليس على إطلاقه عنده بل هو مقيد بما إذا [ ص: 174 ] كان على وجه الاستحسان لكن قال صاحب الذخيرة: قد عثرنا على رواية عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن الرضا بكفر الغير كفر من غير تفصيل، والمنقول عن علم الهدى أبي منصور الماتريدي التفصيل ففي المسألة اختلاف قيل: والمعول عليه أن الرضا بالكفر من حيث أنه كفر كفر وأن الرضا به لا من هذه الحيثية بل من حيثية كونه سببا للعذاب الأليم أو كونه أثرا من آثار قضاء الله تعالى وقدره مثلا ليس بكفر وبهذا يندفع التنافي بين قولهم: الرضا بالكفر كفر وقولهم: الرضا بالقضاء واجب بناء على حمل القضاء فيه على المقضي وعلى هذا لا يتأتى ما قيل: إن رضا العبد بكفر نفسه كفر بلا شبهة على إطلاقه بل يجري فيه التفصيل السابق في الرضا بكفر الغير أيضا، ومن هذا التحقيق يعلم ما في قولهم: إن من جاءه كافر ليسلم فقال له: اصبر حتى أتوضأ أو أخره يكفر لرضاه بكفره في زمان من النظر، ويؤيده ما في الحديث الصحيح في فتح مكة أن ابن أبي سرح أتى به عثمان رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقال: يا رسول الله بايعه فكف صلى الله تعالى عليه وسلم يده عن بيعته ونظر إليه ثلاث مرات كل ذلك يأبى أن يبايعه فبايعه بعد الثلاث ثم أقبل صلى الله تعالى عليه وسلم على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله قالوا: وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك ألا أومأت إلينا بعينك فقال عليه الصلاة والسلام: إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين . وقد أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص وهو معروف في السير فإنه ظاهر في أن التوقف مطلقا ليس كما قالوه كفرا

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية