الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : كل الطعام أي المطعوم ، والحل مصدر يستوي فيه المفرد والجمع والمذكر والمؤنث ، وهو الحلال وإسرائيل هو يعقوب كما تقدم تحقيقه . ومعنى الآية : أن كل المطعومات كانت حلالا لبني يعقوب ، لم يحرم عليهم شيء منها إلا ما حرم إسرائيل على نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                      وسيأتي بيان ما هو الذي حرمه على نفسه ، وهذا الاستثناء متصل من اسم كان . وقوله : من قبل أن تنزل التوراة متعلق بقوله : كان حلا أي : أن كل المطعومات كانت حلالا من قبل أن تنزل التوراة أي : كان ما عدا المستثنى حلالا لهم من قبل أن تنزل التوراة مشتملة على تحريم ما حرمه عليهم لظلمهم ، وفيه رد على اليهود لما أنكروا ما قصه الله سبحانه على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من أن سبب ما حرمه الله عليهم هو ظلمهم وبغيهم كما في قوله : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم [ النساء : 160 ] الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلى قوله : ذلك جزيناهم ببغيهم [ الأنعام : 146 ] وقالوا : إنها مرحمة على من قبلهم من الأنبياء ، يريدون بذلك تكذيب ما قصه الله على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه العزيز ، ثم أمره الله سبحانه بأن يحاجهم بكتابهم ويجعل بينه وبينهم حكما ما أنزله الله عليهم لا ما أنزله عليه فقال قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين حتى تعلموا صدق ما قصه الله في القرآن من أنه لم يحرم على بني إسرائيل شيء من قبل نزول التوراة إلا ما حرمه يعقوب على نفسه . وفي هذا من الإنصاف للخصوم ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال : فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك أي : من بعد إحضار التوراة وتلاوتها فأولئك هم الظالمون أي : المفرطون في الظلم المتبالغون فيه فإنه لا أظلم ممن حوكم إلى كتابه وما يعتقده شرعا صحيحا . ثم جادل من بعد ذلك مفتريا على الله الكذب ، ثم لما كان ما يفترونه من الكذب بعد قيام الحجة عليهم بكتابهم باطلا مدفوعا ، وكان ما قصه الله سبحانه في القرآن وصدقته التوراة صحيحا صادقا ، وكان ثبوت هذا الصدق بالبرهان الذي لا يستطيع الخصم دفعه ، أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن ينادي بصدق الله بعد أن سجل عليهم الكذب ، فقال : قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم أي : ملة الإسلام التي أنا عليها ، وقد تقدم بيان معنى الحنيف ، وكأنه قال لهم : إذا تبين لكم صدقي وصدق ما جئت به فادخلوا في ديني ، فإن من جملة ما أنزل الله علي ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه [ آل عمران : 85 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : فأخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه ؟ قال : كان يسكن البدو فاشتكى عرق النساء فلم يجد شيئا يلائمه إلا تحريم الإبل وألبانها فلذلك حرمها ، قالوا : صدقت وذكر الحديث . وأخرجه أيضا أحمد والنسائي .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في الآية قال : العرق أجده عرق النساء ، فكان يبيت له زق يعني صياح ، فجعل لله عليه إن شفاه أن لا يأكل لحما فيه عرق ، فحرمته اليهود . وأخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس من قوله ما أخرجه الترمذي سابقا عنه مرفوعا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقول : الذي حرم إسرائيل على نفسه زائدتا الكبد والكليتان والشحم إلا ما كان على الظهر . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : نزلت التوراة بتحريم الذي حرم إسرائيل ، فقال الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم : قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين وكذبوا ليس في التوراة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية