الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد

                                                                                                                                                                                                                                      خالدين فيها خلا أنه إن أريد حدوث كونهم في النار فالحال مقدرة ما دامت السماوات والأرض أي: مدة دوامهما، وهذا التوقيت عبارة عن التأييد ونفي الانقطاع بناء على منهاج قول العرب : ما دام تعار، وما أقام ثبير، وما لاح كوكب، وما اختلف الليل والنهار، وما طما البحر، وغير ذلك من كلمات التأبيد لا تعليق قرارهم فيها بدوام هذه السماوات والأرض، فإن النصوص القاطعة دالة على تأبيد قرارهم فيها وانقطاع دوامهما، وإن أريد التعليق فالمراد سماوات الآخرة وأرضها، كما يدل على ذلك النصوص كقوله تعالى: يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وقوله تعالى: وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء وجزم كل أحد بأن أهل الآخرة [ ص: 242 ] لا بد لهم من مظلة ومقلة دائمتين يكفي في تعليق دوام قرارهم فيها بدوامهما، ولا حاجة إلى الوقوف على تفاصيل أحوالهما وكيفياتهما.

                                                                                                                                                                                                                                      إلا ما شاء ربك استثناء من الخلود على طريقة قوله تعالى: لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى وقوله: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف وقوله تعالى: حتى يلج الجمل في سم الخياط غير أن استحالة الأمور المذكورة معلومة بحكم العقل، واستحالة تعلق المشيئة بعدم الخلود معلومة بحكم النقل، يعني أنهم مستقرون في النار في جميع الأزمنة إلا في زمان مشيئة الله تعالى لعدم قرارهم فيها، وإذ لا إمكان لتلك المشيئة ولا لزمانها بحكم النصوص القاطعة الموجبة للخلود فلا إمكان لانتهاء مدة قرارهم فيها، ولدفع ما عسى يتوهم من كون استحالة تعلق مشيئة الله تعالى بعدم الخلود بطريق الوجوب على الله تعالى قال: إن ربك فعال لما يريد يعني أنه في تخليد الأشقياء في النار - بحيث يستحيل وقوع خلافة - فعال بموجب إرادته، قاض بمقتضى مشيئته الجارية على سنن حكمته الداعية إلى ترتيب الأجزية على أفعال العباد، والعدول من الإضمار إلى الإظهار لتربية المهابة، وزيادة التقرير، وقيل: هو استثناء من الخلود في عذاب النار، فإنهم لا يخلدون فيه، بل يعذبون بالزمهرير، وبأنواع أخر من العذاب، وبما هو أغلظ منها كلها، وهو سخط الله تعالى عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنت تدري أنا - وإن سلمنا أن المراد بالنار ليس مطلق دار العذاب المشتملة على أنواع العذاب، بل نفس النار - فما خلا عذاب الزمهرير من تلك الأنواع مقارن لعذاب النار، فلا مصداق في ذلك للاستثناء، ولك أن تقول: إنهم ليسوا بمخلدين في العذاب الجسماني الذي هو عذاب النار، بل لهم من أفانين العذاب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه، وهي العقوبات والآلام الروحانية التي لا يقف عليها في هذه الحياة الدنيا المنغمسون في أحكام الطبيعة، المقصور إدراكهم على ما ألفوا من الأحوال الجسمانية، وليس لهم استعداد لتلقي ما وراء ذلك من الأحوال الروحانية إذا ألقي إليهم، ولذلك لم يتعرض لبيانه، واكتفي بهذه المرتبة الإجمالية المنبئة عن التهويل، وهذه العقوبات - وإن كان تعتريهم وهم في النار - لكنهم ينسون بها عذاب النار، ولا يحسون به، وهذه المرتبة كافية في تحقيق معنى الاستثناء هذا، وقد قيل: (إلا) بمعنى (سوى) وهو أوفق بما ذكر، وقيل: "ما" بمعنى (من) على إرادة معنى الوصفية، فالمعنى: إن الذين شقوا في النار مقدرين الخلود فيها إلا الذين شاء الله عدم خلودهم فيها وهم عصاة المؤمنين.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية