الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون

                                                                                                                                                                                                                                      وراودته التي هو في بيتها رجوع إلى شرح ما جرى عليه في منزل العزيز بعدما أمر امرأته بإكرام مثواه، وقوله تعالى: "وكذلك مكنا ليوسف" إلى هنا اعتراض جيء به أنموذجا للقصة؛ ليعلم السامع من أول الأمر أن ما لقيه - عليه السلام - من الفتن التي ستحكى بتفاصيلها له غاية جميلة وعاقبة حميدة، وأنه - عليه السلام - محسن في جميع أعماله، لم يصدر عنه في حالتي السراء والضراء ما يخل بنزاهته.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يخفي أن مدار حسن التخليص إلى هذا الاعتراض - قبل تمام الآية الكريمة - إنما هو التمكين البالغ المفهوم من كلام العزيز، فإدراج الإنجاء السابق تحت الإشارة بذلك في قوله تعالى: "وكذلك مكنا" كما فعله الجمهور ناء من التقريب، فتأمل.

                                                                                                                                                                                                                                      والمراودة المطالبة من (راد يرود) إذا جاء وذهب لطلب شيء، ومنه الرائد لطلب الماء والكلأ، وهي مفاعلة من واحد نحو مطالبة الدائن، ومماطلة المديون، ومداواة الطبيب، ونظائرها مما يكون من أحد الجانبين الفعل ومن الآخر سببه، فإن هذه الأفعال - وإن كانت صادرة عن أحد الجانبين - لكن لما كانت أسبابها صادرة عن الجانب الآخر جعلت كأنها صادرة عنهما، وهذا باب لطيف المسلك، مبني على اعتبار دقيق، تحقيقه أن سبب الشيء يقام مقامه، ويطلق عليه اسمه كما في قولهم: (كما تدين تدان) أي: كما تجزي تجزى، فإن فعل البادئ - وإن لم يكن جزاء - لكنه لكونه سببا للجزاء أطلق عليه اسمه، وكذلك إرادة القيام إلى الصلاة وإرادة قراءة القرآن، حيث كانتا سببا للقيام والقراءة عبر عنهما بهما، فقيل: (إذا قمتم إلى الصلاة) (فإذا قرأت القرآن) وهذه قاعدة مطردة مستمرة، ولما كانت أسباب الأفعال المذكورة - فيما نحن فيه - صادرة عن الجانب المقابل لجانب فاعلها، فإن مطالبة الدائن للمماطلة التي هي من جانب الغريم، وهي منه للمطالبة التي هي من جانب الدائن، وكذا مداواة الطبيب للمرض الذي هو من جانب المريض، وكذلك مراودتها فيما نحن فيه لجمال يوسف - عليه السلام - نزل صدورها عن محالها بمنزلة صدور مسبباتهما التي هي تلك الأفعال، فبني الصيغة على ذلك وروعي جانب الحقيقة، بأن أسند الفعل إلى الفاعل، وأوقع على صاحب السبب، فتأمل.

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز أن يراد بصيغة المغالبة مجرد المبالغة، وقيل: الصيغة على بابها، بمعنى أنها طلبت منه الفعل وهو منها الترك، ويجوز أن يكون من الرويد، وهو الرفق والتحمل، وتعديتها بعن لتضمينها معنى المخادعة، فالمعنى خادعته.

                                                                                                                                                                                                                                      عن نفسه أي: فعلت [ ص: 265 ] ما يفعل المخادع لصاحبه عن شيء لا يريد إخراجه من يده، وهو يحتال أن يأخذه منه، وهي عبارة عن التمحل في مواقعته إياها، والعدول عن التصريح باسمها للمحافظة على السر، أو للاستهجان بذكره، وإيراد الموصول لتقرير المراودة، فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك - قيل لواحدة: ما حملك على ما أنت عليه مما لا خير فيه؟ قالت: قرب الوساد وطول السواد - ولإظهار كمال نزاهته - عليه السلام - فإن عدم ميله إليها مع دوام مشاهدته لمحاسنها واستعصاءه عليها مع كونه تحت ملكتها ينادي بكونه - عليه السلام - في أعلى معارج العفة والنزاهة.

                                                                                                                                                                                                                                      وغلقت الأبواب قيل: كانت سبعة، ولذلك جاء الفعل بصيغة التفعيل دون الإفعال، وقيل للمبالغة في الإيثاق والإحكام وقالت هيت لك قرئ بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء، وبناؤه كبناء أين وعيط، وهيت كجير، وهيت كحيث اسم فعل معناه أقبل وبادر، واللام للبيان، أي: لك أقول هذا كما في هلم لك، وقرئ (هئت لك) على صيغة الفعل بمعنى تهيأت، يقال: هاء يهيء كجاء يجيء إذا تهيأ، وهيئت لك، واللام صلة للفعل.

                                                                                                                                                                                                                                      قال معاذ الله أي: أعوذ بالله معاذا مما تدعينني إليه، وهذا اجتناب منه على أتم الوجوه، وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه، وما ذاك إلا لأنه - عليه السلام - قد شاهده بما أراه الله تعالى من البرهان النير على ما هو عليه في حد ذاته من غاية القبح ونهاية السوء.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله عز وجل: إنه ربي أحسن مثواي تعليلا للامتناع ببعض الأسباب الخارجية مما عسى يكون مؤثرا عندها وداعيا لها إلى اعتباره بعد التنبيه على سببه الذاتي الذي لا تكاد تقبله لما سولته لها نفسها، والضمير للشأن، ومدار وضعه موضعه ادعاء شهرته المغنية عن ذكره، وفائدة تصدير الجملة به الإيدان بفخامة مضمونها مع ما فيه من زيادة تقريره في الذهن، فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر، فيبقى الذهن مترقبا لما يعقبه، فيتمكن عند وروده له فضل تمكن، فكأنه قيل: إن الشأن الخطير هذا وهو ربي - أي سيدي العزيز - أحسن مثواي، أي: أحسن تعهدي حيث أمرك بإكرامي، فكيف يمكن أن أسيء إليه بالخيانة في حرمه، وفيه إرشاد لها إلى رعاية حق العزيز بألطف وجه؟ وقيل: الضمير لله عز وجل، وربي خبر (إن) وأحسن مثواي خبر ثان، أو هو الخبر والأول بدل من الضمير.

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى أن الحال هكذا فكيف أعصيه بارتكاب تلك الفاحشة الكبيرة؟ وفيه تحذير لها من عقاب الله عز وجل، وعلى التقديرين ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالة من غير تعرض لاقتضائها الامتناع عما دعته إليه إيذان بأن هذه المرتبة من البيان كافية في الدلالة على استحالته وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: إنه لا يفلح الظالمون تعليل للامتناع المذكور غب تعليل، والفلاح الظفر، وقيل: البقاء في الخير، ومعنى أفلح دخل فيه كأصبح وأخواته، والمراد بالظالمين كل من ظلم كائنا من كان، فيدخل في ذلك المجازون للإحسان بالإساءة والعصاة لأمر الله تعالى دخولا أوليا، وقيل: الزناة؛ لأنهم ظالمون لأنفسهم وللمزني بأهله.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية