الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين

                                                                                                                                                                                                                                      قالت فذلكن الفاء فصيحة، والخطاب للنسوة، والإشارة إلى يوسف بالعنوان الذي وصفنه به الآن من الخروج في الحسن والجمال عن المراتب البشرية، والاقتصار على الملكية، فاسم الإشارة مبتدأ، والموصول [ ص: 273 ] خبره، والمعنى: إن كان الأمر كما قلتن فذلكن الملك الكريم النائي من المراتب البشرية هو الذي لمتنني فيه أي: عيرتنني في الافتتان به، حيث ربأتن بمحلي بنسبتي إلى العزيز، ووضعتن قدره بكونه من المماليك، أو بالعنوان الذي وصفنه به فيما سبق بقولهن: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني، فهو خبر لمبتدأ محذوف، أي: فهو ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن وقلتن فيه وفي ما قلتن، فالآن قد علمتن من هو وما قولكن فينا، وأما ما يقال تعني أنكن لم تصورنه بحق صورته، ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتتان به - فلا يلائم المقام، فإن مرادها بدعوتهن وتمهيد ما مهدته لهن تبكيتهن وتنديمهن على ما صدر عنهن من اللوم، وقد فعلت ذلك بما لا مزيد عليه، وما ذكر من المقال فحق المعتذر قبل ظهور معذرته، وقد قيل في تعليل الملكية أن الجمع بين الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة من الخواص الملكية، وهو أيضا لا يلائم قولها: (فذلكن الذي لمتنني فيه) فإن عنوان العصمة مما ينافي تمشية مرامها، ثم بعدما أقامت عليهن الحجة وأوضحت لديهن عذرها، وقد أصابهن من قبله - عليه السلام - ما أصابها باحت لهن ببقية سرها فقالت:

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد راودته عن نفسه حسبما قلتن وسمعتن فاستعصم امتنع طالبا للعصمة، وهو بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ، والتحفظ الشديد، كأنه في عصمة، وهو يجتهد في الاستزادة منها، كما في استمسك واستجمع الرأي، وفيه برهان نير على أنه لم يصدر عنه - عليه السلام - شيء مخل باستعصامه بقوله: (معاذ الله) من الهم وغيره، اعترفت لهن أولا بما كن يسمعنه من مراودتها له وأكدته إظهارا لابتهاجها بذلك، ثم زادت على ذلك أنه أعرض عنها على أبلغ ما يكون، ولم يمل إليها قط، ثم زادت عليه أيضا أنها مستمرة على ما كانت عليه غير مرعوية عنه لا بلوم العواذل، ولا بإعراض الحبيب فقالت:

                                                                                                                                                                                                                                      ولئن لم يفعل ما آمره أي: آمر به فيما سيأتي، كما لم يفعل فيما مضى فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير، كما في: (أمرتك الخير) فالضمير للموصول، أو أمري إياه، أي: موجب أمري ومقتضاه، فما مصدرية، والضمير ليوسف ، وعبرت عن مراودتها بالأمر إظهارا لجريان حكومتها عليه واقتضاء للامتثال بأمرها.

                                                                                                                                                                                                                                      ليسجنن بالنون المثقلة آثرت بناء الفعل للمفعول جريا على رسم الملوك، أو إيهاما لسرعة ترتب ذلك على عدم امتثاله لأمرها، كأنه لا يدخل بينهما فعل فاعل وليكونا بالمخففة من الصاغرين أي: الأذلاء في السجن، وقد قرئ الفعلان بالتثقيل، ولكن المشهورة أولى؛ لأن النون كتبت في المصحف ألفا على حكم الوقف، واللام الداخلة على حرف الشرط موطئة للقسم، وجوابه ساد مسد الجوابين، ولقد أتت بهذا الوعيد المنطوي على فنون التأكيد بمحضر منهن؛ ليعلم يوسف - عليه السلام - أنها ليست في أمرها على خفية ولا خيفة من أحد، فتضيق عليه الحيل وتعيا به العلل، وينصحن له ويرشدنه إلى موافقتها، ولما كان هذا الإبراق والإرعاد منها مظنة لسؤال سائل يقول: فما صنع يوسف حينئذ؟ قيل:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية