ولقد بين القرآن الكريم حقيقة ثابتة في الرسالات الإلهية، وهي أن
nindex.php?page=treesubj&link=31781يكون الرسول بلسان قومه، فقال تعالى:
nindex.php?page=treesubj&link=19881_28723_30454_31781_34092_34274_28985nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم .
(من) هنا لاستغراق النفي ثم الإثبات، أي ما أرسلنا أي رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم، وهذا النص الكريم يفيد أنه سبحانه لا يرسل رسولا إلا بلسان قومه الذين بعث من بينهم، وأن البيان الأول يكون لهم ثم ينبعث نور الدعوة من ورائهم، وكذلك كان النبيون،
فعيسى - صلى الله عليه وسلم - بعث بلسان قومه وكانت دعوته بلسان قومه وهو العبرية، وعمت دعوته ابتداء بلسان قومه، والأناجيل التي حكت مواعظه في الجبل والسفح كانت بلغة قومه ابتداء، فإذا كانت قد ظهرت بغير لغته ولغة قومه، بل بلغة أعدائهم فإن السند يكون حينئذ منقطعا بين الرسالة ومن أرسل فيهم، بل بينهم وبين الرسول ذاته، ولذا كان تحريف القول عن موضعه.
وموسى من قبل
عيسى - عليهما السلام - بعث أيضا بلغة قومه وهم بنو إسرائيل ابتداء، ثم كانت لغة
فرعون عندما خاطبه هو
هارون. [ ص: 3986 ] وكذلك
محمد - صلى الله عليه وسلم -، قد بعث بلغة قومه الذين كانت دعوته الأولى بينهم وانبعث نورها منهم ولكنها كانت عامة، كما قال تعالى عن نبيه:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=158قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا وكما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=28وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا وكما قال - صلى الله عليه وسلم -:
nindex.php?page=hadith&LINKID=941690 " بعثت للأحمر والأسود " .
وكونه بلسان قومه لا يفيد أنه كان
للعرب خاصة، فذلك لما قصته الآيات القرآنية الصريحة والأحاديث النبوية الشريفة والوقائع التاريخية الصادقة، فإن دعوته دخل فيها
nindex.php?page=showalam&ids=52صهيب الرومي، nindex.php?page=showalam&ids=115وبلال الحبشي، ثم
nindex.php?page=showalam&ids=23سلمان الفارسي، وذكر - صلى الله عليه وسلم - أن هؤلاء يصورون أجناسهم في الدعوة المحمدية، ولم يلبث النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن عمت دعوته
الجزيرة العربية أن بعث إلى
هرقل ملك
الروم، وإلى
كسرى ملك
الفرس، وإلى
المقوقس عظيم
القبط، يدعوهم إلى الإسلام، وهكذا.
إذن فالدعوة كانت للناس قاطبة، ولكنها ككل دعوة حق تبتدئ في أضيق دائرة، ثم تتسع شيئا فشيئا حتى تصير نورا ساطعا يعم الأكوان، فابتدأت الدعوة في أسرة الرسول وأصدقائه ثم دعيت عشيرته، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=214وأنذر عشيرتك الأقربين ثم كان الصدع بالدعوة والجهر بها
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=94فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ثم كانت في القبائل العربية، ثم تجاوزت ربوع الصحراء العربية إلى أرض
كسرى وقيصر وسارت إلى
الحبشة بعد أن عمت ربوع
اليمن.
وقوله تعالى في مقابل إرسال الرسول عن قومه:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء
ذكر سبحانه أن البيان الأول يكون لقومه، ثم يكون بعد ذلك لغيرهم.
[ ص: 3987 ] والآن ونحن نرى الاختلاط الفكري بين البشرية، حتى إن الأمر ليقع في أرض فيذيع خبره، بعد أقل من ساعة في كل أنحاء الأرض، لا نعجب في أن يكون بعث الرسول بلغة ويعم علمه بعد ساعة من نهار أو ليل كل بقاع الأرض، ولكن العجب في أن يكون في الماضي البعث بلغة والدعوة عامة، هذا ما أثاره وبينه
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري، وهذا ما قاله سننقله بطوله:
" فإن قلت لم يبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى
العرب وحدهم وإنما بعث إلى الناس كافة
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=158قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة، فإن لم يكن
للعرب حجة فلغيرهم حجة، وإن لم تكن لغيرهم حجة، فلو نزل بالعجمية لم يكن
للعرب حجة أيضا، قلت: لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها، فلا حاجة لنزوله بجميع الألسنة؛ لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل، فبقي أن ينزل بلسان واحد، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول؛ لأنهم أقرب إليه، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر، قامت التراجم ببيانه وتفهيمه، كما نرى الحال ونشاهد من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة، والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه، وما يتشعب من ذلك جلائل الفوائد وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكذا القرائح فيه من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب؛ ولأنه أبعد من التحريف، وأسلم من التنازع والاختلاف. . . . . " .
وننتهي من كلام
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري إلى أمرين: أولهما: أن
nindex.php?page=treesubj&link=32264_20754نزول القرآن والدعوة المحمدية كانت باللغة العربية؛ لأنها كانت لغة النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانت أقرب إليه؛ ولأن القرآن المعجز إذا كان باللغة عانى غيرهم من حفظ لفظه وتفهم معانيه، وفي ذلك ثواب أولا، وصون للقرآن عن التغيير والتبديل فيه ثانيا.
[ ص: 3988 ] ويشير إلى أنه لو نزل بكل اللغات، وكان معجزا فيها جميعا لكان الإيمان بالإلجاء لا بالاختيار وله في ذلك نظرة.
وإنه يجب أن نلاحظ أمرين:
أولهما: ما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي - رضي الله عنه - أنه
nindex.php?page=treesubj&link=18480_18479_18467يجب أن يعرف كل مسلم قدرا من اللغة العربية يصحح به دينه.
وثانيهما: أن جعل القرآن باللغة العربية، ومحاولة الأعاجم أن يحفظوه يقرب بين اللغات، وحيث قربت اللغات قربت العلاقات الإنسانية.
وكان ذلك قائما يوم كانت الوحدة العربية قائمة، وكانت اللغة العربية جامعة لهم وفيها دونت ثقافاتهم وكانت وعاء للعلم الإسلامي، فلما انبعثت اللغات الإقليمية من مراقدها ذهبت الوحدة وتفرقت الكلمة.
ونعود إلى الكلام في معنى الآية الكريمة
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء أي أنه يترتب على البيان أن يسير الناس في طريق الضلالة، إذ يكذبون، ولا يصدقون، ويهدي الله تعالى من يسير في طريق الهداية، فيأخذ بيده إلى غايتها.
وهنا يسأل سائل لماذا قدمت الضلالة على الهداية؟ ونقول في الجواب عن ذلك: إن الآيات سبقت لبيان إنذار الضالين، فهم موضع الإنذار؛ ولأن الشيطان قريب من نفوس البشر؛ ولأن الأهواء تجعل حكم الضلال هو الأغلب.
وقد ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4وهو العزيز الحكيم لبيان أن الكفار مهما يكن سلطانهم وقوتهم وحسبانهم أنهم لن يغلبوا، ويذهب بهم غرورهم إلى زعم أنهم العالون، فالله تعالى هو واهب العزة، وهو العزيز الذي يذلهم، ويجعل لأهل الإيمان الكلمة العليا، وهو الحكيم الذي يدبر الأمور بحكمته وبعلمه الذي وسع كل شيء، فهو يمهل الكافرين ويملي لهم، كما قال عز من قائل:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=183وأملي لهم إن كيدي متين يملي لهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وَلَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ حَقِيقَةً ثَابِتَةً فِي الرِّسَالَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَهِيَ أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=31781يَكُونَ الرَّسُولُ بِلِسَانِ قَوْمِهِ، فَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=treesubj&link=19881_28723_30454_31781_34092_34274_28985nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .
(مِنْ) هُنَا لِاسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ ثُمَّ الْإِثْبَاتِ، أَيْ مَا أَرْسَلْنَا أَيَّ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، وَهَذَا النَّصُّ الْكَرِيمُ يُفِيدُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُرْسِلُ رَسُولًا إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ الَّذِينَ بُعِثَ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَأَنَّ الْبَيَانَ الْأَوَّلَ يَكُونُ لَهُمْ ثُمَّ يَنْبَعِثُ نُورُ الدَّعْوَةِ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّونَ،
فَعِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ بِلِسَانِ قَوْمِهِ وَكَانَتْ دَعْوَتُهُ بِلِسَانِ قَوْمِهِ وَهُوَ الْعِبْرِيَّةُ، وَعَمَّتْ دَعْوَتُهُ ابْتِدَاءً بِلِسَانِ قَوْمِهِ، وَالْأَنَاجِيلُ الَّتِي حَكَتْ مَوَاعِظَهُ فِي الْجَبَلِ وَالسَّفْحِ كَانَتْ بِلُغَةِ قَوْمِهِ ابْتِدَاءً، فَإِذَا كَانَتْ قَدْ ظَهَرَتْ بِغَيْرِ لُغَتِهِ وَلُغَةِ قَوْمِهِ، بَلْ بِلُغَةِ أَعْدَائِهِمْ فَإِنَّ السَّنَدَ يَكُونُ حِينَئِذٍ مُنْقَطِعًا بَيْنَ الرِّسَالَةِ وَمَنْ أُرْسِلَ فِيهِمْ، بَلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ ذَاتِهِ، وَلِذَا كَانَ تَحْرِيفُ الْقَوْلِ عَنْ مَوْضِعِهِ.
وَمُوسَى مِنْ قَبْلِ
عِيسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - بُعِثَ أَيْضًا بِلُغَةِ قَوْمِهِ وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ابْتِدَاءً، ثُمَّ كَانَتْ لُغَةُ
فِرْعَوْنَ عِنْدَمَا خَاطَبَهُ هُوَ
هَارُونُ. [ ص: 3986 ] وَكَذَلِكَ
مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَدْ بُعِثَ بِلُغَةِ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَانَتْ دَعْوَتُهُ الْأَوْلَى بَيْنَهُمْ وَانْبَعَثَ نُورُهَا مِنْهُمْ وَلَكِنَّهَا كَانَتْ عَامَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=158قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا وَكَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=28وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَكَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
nindex.php?page=hadith&LINKID=941690 " بُعِثْتُ لِلْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ " .
وَكَوْنُهُ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لَا يُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ
لِلْعَرَبِ خَاصَّةً، فَذَلِكَ لِمَا قَصَّتْهُ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الصَّرِيحَةُ وَالْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ الشَّرِيفَةُ وَالْوَقَائِعُ التَّارِيخِيَّةُ الصَّادِقَةُ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُ دَخَلَ فِيهَا
nindex.php?page=showalam&ids=52صُهَيْبٌ الرُّومِيُّ، nindex.php?page=showalam&ids=115وَبِلَالٌ الْحَبَشِيُّ، ثُمَّ
nindex.php?page=showalam&ids=23سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَذَكَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ هَؤُلَاءِ يُصَوِّرُونَ أَجْنَاسَهُمْ فِي الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَلَمْ يَلْبَثِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ عَمَّتْ دَعْوَتُهُ
الْجَزِيرَةَ الْعَرَبِيَّةَ أَنْ بَعَثَ إِلَى
هِرَقْلَ مَلِكِ
الرُّومِ، وَإِلَى
كِسْرَى مَلِكِ
الْفُرْسِ، وَإِلَى
الْمُقَوْقِسِ عَظِيمِ
الْقِبْطِ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهَكَذَا.
إِذَنْ فَالدَّعْوَةُ كَانَتْ لِلنَّاسِ قَاطِبَةً، وَلَكِنَّهَا كَكُلِّ دَعْوَةِ حَقٍّ تَبْتَدِئُ فِي أَضْيَقِ دَائِرَةٍ، ثُمَّ تَتَّسِعُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى تَصِيرَ نُورًا سَاطِعًا يَعُمُّ الْأَكْوَانَ، فَابْتَدَأَتِ الدَّعْوَةُ فِي أُسْرَةِ الرَّسُولِ وَأَصْدِقَائِهِ ثُمَّ دُعِيَتْ عَشِيرَتُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=214وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ثُمَّ كَانَ الصَّدْعُ بِالدَّعْوَةِ وَالْجَهْرُ بِهَا
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=94فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ كَانَتْ فِي الْقَبَائِلِ الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ تَجَاوَزَتْ رُبُوعَ الصَّحْرَاءِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَى أَرْضِ
كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَسَارَتْ إِلَى
الْحَبَشَةِ بَعْدَ أَنْ عَمَّتْ رُبُوعُ
الْيَمَنِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي مُقَابِلِ إِرْسَالِ الرَّسُولِ عَنْ قَوْمِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْبَيَانَ الْأَوَّلَ يَكُونُ لِقَوْمِهِ، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ.
[ ص: 3987 ] وَالْآنَ وَنَحْنُ نَرَى الِاخْتِلَاطَ الْفِكْرِيَّ بَيْنَ الْبَشَرِيَّةِ، حَتَّى إِنَّ الْأَمْرَ لَيَقَعُ فِي أَرْضٍ فَيَذِيعُ خَبَرُهُ، بَعْدَ أَقَلَّ مِنْ سَاعَةٍ فِي كُلِّ أَنْحَاءِ الْأَرْضِ، لَا نَعْجَبُ فِي أَنْ يَكُونَ بَعْثُ الرَّسُولِ بِلُغَةٍ وَيَعُمُّ عِلْمُهُ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ أَوْ لَيْلٍ كُلَّ بِقَاعِ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّ الْعَجَبَ فِي أَنْ يَكُونَ فِي الْمَاضِي الْبَعْثُ بِلُغَةٍ وَالدَّعْوَةُ عَامَّةً، هَذَا مَا أَثَارَهُ وَبَيَّنَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهَذَا مَا قَالَهُ سَنَنْقُلُهُ بِطُولِهِ:
" فَإِنْ قَلْتَ لَمْ يُبْعَثْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى
الْعَرَبِ وَحْدَهُمْ وَإِنَّمَا بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=158قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا بَلْ إِلَى الثَّقَلَيْنِ وَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لِلْعَرَبِ حُجَّةٌ فَلِغَيْرِهِمْ حُجَّةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِغَيْرِهِمْ حُجَّةٌ، فَلَوْ نَزَلَ بِالْعَجَمِيَّةِ لَمْ يَكُنْ
لِلْعَرَبِ حُجَّةٌ أَيْضًا، قَلْتُ: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَنْزِلَ بِجَمِيعِ الْأَلْسِنَةِ أَوْ بِوَاحِدٍ مِنْهَا، فَلَا حَاجَةَ لِنُزُولِهِ بِجَمِيعِ الْأَلْسِنَةِ؛ لِأَنَّ التَّرْجَمَةَ تَنُوبُ عَنْ ذَلِكَ وَتَكْفِي التَّطْوِيلَ، فَبَقِيَ أَنْ يَنْزِلَ بِلِسَانٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ أَوْلَى الْأَلْسِنَةِ لِسَانَ قَوْمِ الرَّسُولِ؛ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَيْهِ، فَإِذَا فَهِمُوا عَنْهُ وَتَبَيَّنُوهُ وَتُنُوقِلَ عَنْهُمْ وَانْتَشَرَ، قَامَتِ التَّرَاجِمُ بِبَيَانِهِ وَتَفْهِيمِهِ، كَمَا نَرَى الْحَالَ وَنُشَاهِدُ مِنْ نِيَابَةِ التَّرَاجِمِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ مِنْ أُمَمِ الْعَجَمِ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْبِلَادِ الْمُتَبَاعِدَةِ، وَالْأَقْطَارِ الْمُتَنَازِحَةِ وَالْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْأَجْيَالِ الْمُتَفَاوِتَةِ عَلَى كِتَابٍ وَاحِدٍ، وَاجْتِهَادِهِمْ فِي تَعَلُّمِ لَفْظِهِ وَتَعَلُّمِ مَعَانِيهِ، وَمَا يَتَشَعَّبُ مِنْ ذَلِكَ جَلَائِلُ الْفَوَائِدِ وَمَا يَتَكَاثَرُ فِي إِتْعَابِ النُّفُوسِ وَكَذَا الْقَرَائِحُ فِيهِ مِنَ الْقُرْبِ وَالطَّاعَاتِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى جَزِيلِ الثَّوَابِ؛ وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ التَّحْرِيفِ، وَأَسْلَمُ مِنَ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ. . . . . " .
وَنَنْتَهِي مِنْ كَلَامِ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيِّ إِلَى أَمْرَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=32264_20754نُزُولَ الْقُرْآنِ وَالدَّعْوَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ كَانَتْ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ لُغَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَتْ أَقْرَبَ إِلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ الْمُعْجِزِ إِذَا كَانَ بِاللُّغَةِ عَانَى غَيْرُهُمْ مِنْ حِفْظِ لَفْظِهِ وَتَفَهُّمِ مَعَانِيهِ، وَفِي ذَلِكَ ثَوَابٌ أَوَّلًا، وَصَوْنٌ لِلْقُرْآنِ عَنِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ فِيهِ ثَانِيًا.
[ ص: 3988 ] وَيُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ بِكُلِّ اللُّغَاتِ، وَكَانَ مُعْجِزًا فِيهَا جَمِيعًا لَكَانَ الْإِيمَانُ بِالْإِلْجَاءِ لَا بِالِاخْتِيَارِ وَلَهُ فِي ذَلِكَ نَظْرَةٌ.
وَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ نُلَاحِظَ أَمْرَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: مَا قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=18480_18479_18467يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَ كُلُّ مُسْلِمٍ قَدْرًا مِنَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ يُصَحِّحُ بِهِ دِينَهُ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ جَعْلَ الْقُرْآنِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمُحَاوَلَةَ الْأَعَاجِمِ أَنْ يَحْفَظُوهُ يُقَرِّبُ بَيْنَ اللُّغَاتِ، وَحَيْثُ قَرُبَتِ اللُّغَاتُ قَرُبَتِ الْعَلَاقَاتُ الْإِنْسَانِيَّةُ.
وَكَانَ ذَلِكَ قَائِمًا يَوْمَ كَانَتِ الْوَحْدَةُ الْعَرَبِيَّةُ قَائِمَةً، وَكَانَتِ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ جَامِعَةً لَهُمْ وَفِيهَا دُوِّنَتْ ثَقَافَاتُهُمْ وَكَانَتْ وِعَاءً لِلْعِلْمِ الْإِسْلَامِيِّ، فَلَمَّا انْبَعَثَتِ اللُّغَاتُ الْإِقْلِيمِيَّةُ مِنْ مَرَاقِدِهَا ذَهَبَتِ الْوَحْدَةُ وَتَفَرَّقَتِ الْكَلِمَةُ.
وَنَعُودُ إِلَى الْكَلَامِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ أَيْ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْبَيَانِ أَنْ يَسِيرَ النَّاسُ فِي طَرِيقِ الضَّلَالَةِ، إِذْ يُكَذِّبُونَ، وَلَا يُصَدِّقُونَ، وَيَهْدِي اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ الْهِدَايَةِ، فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ إِلَى غَايَتِهَا.
وَهُنَا يَسْأَلُ سَائِلٌ لِمَاذَا قُدِّمَتِ الضَّلَالَةُ عَلَى الْهِدَايَةِ؟ وَنَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ: إِنَّ الْآيَاتِ سَبَقَتْ لِبَيَانِ إِنْذَارِ الضَّالِّينَ، فَهُمْ مَوْضِعُ الْإِنْذَارِ؛ وَلِأَنَّ الشَّيْطَانَ قَرِيبٌ مِنْ نُفُوسِ الْبَشَرِ؛ وَلِأَنَّ الْأَهْوَاءَ تَجْعَلُ حُكْمَ الضَّلَالِ هُوَ الْأَغْلَبَ.
وَقَدْ خَتَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لِبَيَانِ أَنَّ الْكُفَّارَ مَهْمَا يَكُنْ سُلْطَانُهُمْ وَقُوَّتُهُمْ وَحُسْبَانُهُمْ أَنَّهُمْ لَنْ يُغْلَبُوا، وَيَذْهَبَ بِهِمْ غُرُورُهُمْ إِلَى زَعْمِ أَنَّهُمُ الْعَالُونَ، فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ وَاهِبُ الْعِزَّةِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي يُذِلُّهُمْ، وَيَجْعَلُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ الْكَلِمَةَ الْعُلْيَا، وَهُوَ الْحَكِيمُ الَّذِي يُدَبِّرُ الْأُمُورَ بِحِكْمَتِهِ وَبِعِلْمِهِ الَّذِي وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ، فَهُوَ يُمْهِلُ الْكَافِرِينَ وَيُمْلِي لَهُمْ، كَمَا قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=183وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ يُمْلِي لَهُمْ ثُمَّ يَأْخُذُهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ.