ما بين التابع والمتبوع والشيطان
قال الله تعالى:
[ ص: 4014 ] nindex.php?page=treesubj&link=19881_30337_30339_30347_30349_30351_34101_28985nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=21وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم
هاتان الآيتان تصوران المجاوبة التي تكون بين العصاة وأولهم الشيطان الذي أقسم ليغوين الناس إلا عباد الله المخلصين، والطبقة التي استغواها ابتداء المتبوعون من ذوي الاستكبار والاستعلاء على الناس بالجاه الدنيوي والمال والعزة، وهؤلاء يؤثرون في غيرهم فتكون الطبقة التابعة والإمعات الطائعة.
صور الله سبحانه أقوال التابعين للمتبوعين وابتداء من الدنيا في العصيان إلى من أخذوهم إلى الضلال، فقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=21وبرزوا لله جميعا أي ظهروا أمام الله جميعا وقد عصوه، إذ أشركوا به أندادا لا تنفع ولا تضر، وذلك بعد أن بعثهم الله تعالى، وأنشرهم من قبورهم وجمعهم يوم الحشر فكانوا أمام الله، وقد كذبوا بلقائه، وقالوا:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد والتعبير بـ (برزوا) فيه تذكير بالعيان لبطلان أقوالهم في الدنيا، وجميعا: إشارة إلى أنه قد جمع التابع والمتبوع والأبيض والأسود، والعربي والأعجمي، وكانوا بين يدي الله وحده، وكانت المجاوبة الآتية:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=21فقال الضعفاء للذين استكبروا الضعفاء: جمع ضعيف، والضعيف يشمل ثلاثة أنواع ممن يتصفون بالضعف:
[ ص: 4015 ] أولهم: الأرقاء والفقراء والأرذلون في معيشتهم في الدنيا، الذين لا يملكون من أمرهم شيئا وفيهم ذلة لم يزيلوها بالإيمان.
وثانيهم: الضعفاء في تفكيرهم الذين يرضون بأدنى فكرة ويتبعون غيرهم اتباعا من غير دليل، بل في استكانة، وإن كانوا أقوياء في مالهم فهم ضعفاء في نفوسهم.
وثالثهم: الذين يتبعون القوة دون دليل.
يقولون للذين استكبروا من الكبراء ذوي الوجاهة والقيادة في الضلال:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=21إنا كنا لكم تبعا وتبع جمع تابع، أو مصدر نعت به، ويكون معنى التعبير هو الإيغال في التبعية كأنهم لا وجود لهم
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=21فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء الفاء تدل على أن ما بعدها سبب لما قبلها، أي بسبب هذه التبعية هل أنتم مغنون عنا عذابا من عذاب الله من شيء؟ (من) الأولى للتبعيض، (ومن) الثانية للاستغراق، والاستفهام إنكاري لإنكار الوقوع، أي لستم مغنين عنا أي قدر من عذاب.
أجاب الذين استكبروا عن الحق، فقد أجابوا عن هذا الاستفهام الإنكاري، الذي لا يخلو من معنى التوبيخ والملامة حيث لا لوم قائلين:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=21لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص والمعنى أننا على سواء، لو هدانا الله إلى الحق لهديناكم إليه ولكننا ضللنا فضللتم، وإنكم إذ كنتم تبعا لنا فارتضوا بما وقع لنا، ولا يخلو هذا الكلام من إلقاء اللوم عليهم في التبعية من غير تفكير وتبرير، وكأنهم يشيرون إليهم إلى أنهم كان عليهم أن يتبعوا عن بينة.
ثم يقولون لهم: إننا وقد وقعنا في الضلال علينا أن نذوق مغبتها طائعين؛ لأننا مجبرون، وفي آية أخرى صرح الكبراء فقالوا:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=39فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون [ ص: 4016 ] وفي هذه الآية يقولون:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=21سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص سواء معناها يستوي علينا جزعنا وصبرنا، فالجزع لا يحول الشر عنا، والصبر لا يمنع الأذى. وقد فسروا هذه التسوية بقولهم:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=21ما لنا من محيص أي منجاة من العذاب، أو مهرب منه أو متحول من هذه الحال إلى غيرها، ومحيص: من حاص حيصا، وهو التحول، أي ما لنا من تحول، ومحيص هنا إما أن يخرج القول على أن (محيص) اسم مكان، ومكانهم جهنم، أي ما لنا تحول عن هذا المكان، أو مصدر ميمي، أي ما لنا تحول عما نحن فيه، فالأمر لله.
مَا بَيْنَ التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ وَالشَّيْطَانِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
[ ص: 4014 ] nindex.php?page=treesubj&link=19881_30337_30339_30347_30349_30351_34101_28985nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=21وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
هَاتَانِ الْآيَتَانِ تُصَوِّرَانِ الْمُجَاوَبَةَ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْعُصَاةِ وَأَوَّلُهُمُ الشَّيْطَانُ الَّذِي أَقْسَمَ لَيُغْوِيَنَّ النَّاسَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، وَالطَّبَقَةُ الَّتِي اسْتَغْوَاهَا ابْتِدَاءً الْمَتْبُوعُونَ مِنْ ذَوِي الِاسْتِكْبَارِ وَالِاسْتِعْلَاءِ عَلَى النَّاسِ بِالْجَاهِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْمَالِ وَالْعِزَّةِ، وَهَؤُلَاءِ يُؤَثِّرُونَ فِي غَيْرِهِمْ فَتَكُونُ الطَّبَقَةُ التَّابِعَةُ وَالْإِمَّعَاتُ الطَّائِعَةُ.
صَوَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَقْوَالَ التَّابِعِينَ لِلْمَتْبُوعِينَ وَابْتِدَاءً مِنَ الدُّنْيَا فِي الْعِصْيَانِ إِلَى مَنْ أَخَذُوهُمْ إِلَى الضَّلَالِ، فَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=21وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا أَيْ ظَهَرُوا أَمَامَ اللَّهِ جَمِيعًا وَقَدْ عَصَوْهُ، إِذْ أَشْرَكُوا بِهِ أَنْدَادًا لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ بَعَثَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنْشَرَهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَجَمَعَهُمْ يَوْمَ الْحَشْرِ فَكَانُوا أَمَامَ اللَّهِ، وَقَدْ كَذَّبُوا بِلِقَائِهِ، وَقَالُوا:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=5أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وَالتَّعْبِيرُ بِـ (بَرَزُوا) فِيهِ تَذْكِيرٌ بِالْعَيَانِ لِبُطْلَانِ أَقْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَجَمِيعًا: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ قَدْ جَمَعَ التَّابِعَ وَالْمَتْبُوعَ وَالْأَبْيَضَ وَالْأَسْوَدَ، وَالْعَرَبِيَّ وَالْأَعْجَمِيَّ، وَكَانُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَكَانَتِ الْمُجَاوَبَةُ الْآتِيَةُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=21فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا الضُّعَفَاءُ: جَمْعُ ضَعِيفٍ، وَالضَّعِيفُ يَشْمَلُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِمَّنْ يَتَّصِفُونَ بِالضَّعْفِ:
[ ص: 4015 ] أَوَّلُهُمْ: الْأَرِقَّاءُ وَالْفُقَرَاءُ وَالْأَرْذَلُونَ فِي مَعِيشَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، الَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْئًا وَفِيهِمْ ذِلَّةٌ لَمْ يُزِيلُوهَا بِالْإِيمَانِ.
وَثَانِيهِمُ: الضُّعَفَاءُ فِي تَفْكِيرِهِمُ الَّذِينَ يَرْضَوْنَ بِأَدْنَى فِكْرَةٍ وَيَتَّبِعُونَ غَيْرَهُمُ اتِّبَاعًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، بَلْ فِي اسْتِكَانَةٍ، وَإِنْ كَانُوا أَقْوِيَاءَ فِي مَالِهِمْ فَهُمْ ضُعَفَاءُ فِي نُفُوسِهِمْ.
وَثَالِثُهُمْ: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْقُوَّةَ دُونَ دَلِيلٍ.
يَقُولُونَ لِلَّذِينِ اسْتَكْبَرُوا مِنَ الْكُبَرَاءِ ذَوِي الْوَجَاهَةِ وَالْقِيَادَةِ فِي الضَّلَالِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=21إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا وَتَبَعٌ جَمْعُ تَابِعٍ، أَوْ مَصْدَرٌ نُعِتَ بِهِ، وَيَكُونُ مَعْنَى التَّعْبِيرِ هُوَ الْإِيغَالُ فِي التَّبَعِيَّةِ كَأَنَّهُمْ لَا وُجُودَ لَهُمْ
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=21فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ الْفَاءُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا سَبَبٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ بِسَبَبِ هَذِهِ التَّبَعِيَّةِ هَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا عَذَابًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ؟ (مِنَ) الْأُولَى لِلتَّبْعِيضِ، (وَمِنَ) الثَّانِيَةُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ لِإِنْكَارِ الْوُقُوعِ، أَيْ لَسْتُمْ مُغْنِينَ عَنَّا أَيَّ قَدْرٍ مِنْ عَذَابٍ.
أَجَابَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنِ الْحَقِّ، فَقَدْ أَجَابُوا عَنْ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، الَّذِي لَا يَخْلُو مِنْ مَعْنَى التَّوْبِيخِ وَالْمَلَامَةِ حَيْثُ لَا لَوْمَ قَائِلِينَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=21لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ وَالْمَعْنَى أَنَّنَا عَلَى سَوَاءٍ، لَوْ هَدَانَا اللَّهُ إِلَى الْحَقِّ لَهَدَيْنَاكُمْ إِلَيْهِ وَلَكِنَّنَا ضَلَلْنَا فَضَلَلْتُمْ، وَإِنَّكُمْ إِذْ كُنْتُمْ تَبَعًا لَنَا فَارْتَضُوا بِمَا وَقَعَ لَنَا، وَلَا يَخْلُو هَذَا الْكَلَامُ مِنْ إِلْقَاءِ اللَّوْمِ عَلَيْهِمْ فِي التَّبَعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ وَتَبْرِيرٍ، وَكَأَنَّهُمْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِمْ إِلَى أَنَّهُمْ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوا عَنْ بَيِّنَةٍ.
ثُمَّ يَقُولُونَ لَهُمْ: إِنَّنَا وَقَدْ وَقَعْنَا فِي الضَّلَالِ عَلَيْنَا أَنْ نَذُوقَ مَغَبَّتَهَا طَائِعِينَ؛ لِأَنَّنَا مُجْبَرُونَ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى صَرَّحَ الْكُبَرَاءُ فَقَالُوا:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=39فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [ ص: 4016 ] وَفِي هَذِهِ الْآيَةَ يَقُولُونَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=21سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ سَوَاءٌ مَعْنَاهَا يَسْتَوِي عَلَيْنَا جَزَعُنَا وَصَبْرُنَا، فَالْجَزَعُ لَا يُحَوِّلُ الشَّرَّ عَنَّا، وَالصَّبْرُ لَا يَمْنَعُ الْأَذَى. وَقَدْ فَسَّرُوا هَذِهِ التَّسْوِيَةَ بِقَوْلِهِمْ:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=21مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ أَيْ مَنْجَاةٍ مِنَ الْعَذَابِ، أَوْ مَهْرَبٍ مِنْهُ أَوْ مُتَحَوَّلٍ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ إِلَى غَيْرِهَا، وَمَحِيصٌ: مِنْ حَاصَ حَيْصًا، وَهُوَ التَّحَوُّلُ، أَيْ مَا لَنَا مِنْ تَحَوُّلٍ، وَمَحِيصٌ هُنَا إِمَّا أَنْ يَخْرُجَ الْقَوْلُ عَلَى أَنَّ (مَحِيصٍ) اسْمُ مَكَانٍ، وَمَكَانُهُمْ جَهَنَّمُ، أَيْ مَا لَنَا تَحَوُّلٌ عَنْ هَذَا الْمَكَانِ، أَوْ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَيْ مَا لَنَا تَحَوُّلٌ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ، فَالْأَمْرُ لِلَّهِ.