الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور لقد ذكرنا في الآية السابقة أن الطريق للإيمان هو الكفر بالطغيان ، بالامتناع عن إجابة كل دعاة الشر من كبراء متجبرين ، وحكام مسيطرين بأوهام باطلة ، وهكذا ، وأن من كفر بالطاغوت فقد آوى إلى ركن شديد ، إذ لجأ إلى الله العلي القدير ، ومن بقي تحت سلطان الطاغوت من ملوك عاتين ، ورؤساء ضالين ، فقد آوى إلى ما لا يعتمد عليه ; لأنه ركن هاو يهوي بصاحبه في نار جهنم .

                                                          والولي فعيل بمعنى فاعل من الولاية . ولقد قال الراغب الأصفهاني : الولاية بالكسر النصرة ، والولاية بالفتح تولي الأمر . وقيل الولاية والولاية واحدة ، نحو الدلالة والدلالة ; والولي والمولى يستعملان في ذلك ، كل واحد منهما في معنى الفاعل " والولاية كما تطلق بمعنى السلطان تطلق بمعنى المحبة والولاء ، كما في قوله تعالى : هنالك الولاية لله الحق

                                                          والولي في الآية الكريمة : الله ولي الذين آمنوا يكون بمعنى ناصرهم ; وقد ذكرنا أن الولاية تكون بمعنى النصرة ، وبمعنى المسيطر على نفوسهم وحده الموجه الهادي ، إذ قد سلمت نفوس المؤمنين من نزغات الشيطان .

                                                          [ ص: 952 ] والظلمات جمع ظلمة ، والمراد بها هنا الضلالة ; ففي الكلام مجاز ; لأن المفاسد التي ينشرها الطغيان تظلم بها النفس وتكون في حيرة ، وتنقطع عن سبيل الهداية ; والنور هو الهدى ; لأن الهدى يكشف عن ينابيع الحق والخير في النفس ، وهو سلوك الطريق الموصل إلى ما يسعد الإنسان في الفانية والباقية فهو كالمصباح للمؤمن به يهتدي ، وبه يصل إلى الغاية . والمعنى للجملة السامية : الله سبحانه جل جلاله الذي ليس فوقه شيء وهو القاهر فوق كل شيء هو ولي الذين آمنوا أي ناصرهم يأخذ بأيديهم من ضلالات الشرك والأوهام والشهوات ، والذلة والاستعباد ، إلى نور الحق والهداية والتحرر من الأوهام ومن الذلة ، والاستقامة نحو العزة . فهذه الجملة تتضمن ثلاثة أمور :

                                                          أولها : نصرة الله القوي القادر ، فلا يصح لمؤمن أن يضعف أمام جبروت الملوك الطغاة أو الجبابرة العتاة ، أو الكبراء المضلين .

                                                          وثانيها : أن الله سبحانه وتعالى هو المسيطر على النفوس يوجه القلوب المؤمنة إلى الحق فيلوح لها نوره ، وتشرق فيها حججه .

                                                          وثالثها : أن الذين يفيض الله عليهم بهذا النور ويؤيدهم بنصره هم الذين ارتضوا الحق بإرادتهم المختارة ، ورفضوا طغيان الكبراء والجبابرة ، وقاوموا نزغات الشيطان ; فإن هؤلاء هم الذين ينصرهم رب العالمين ، ويهديهم بنوره .

                                                          والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات المؤمنون يوجه قلوبهم رب العالمين ، وينصرهم بقدرته ، ويعتزون بعزته ، وهو رب العزة ، له الكبرياء في السماوات وفي الأرض ، وهو العلي العظيم ; أما الذين كفروا فالطاغوت أي الطغيان بكل أنواعه من جبابرة متحكمين ، وكبراء مضلين ، وأوهام مستحكمة ، وضلالات مسيطرة ، هو الذي ينصرهم ويسيطر على قلوبهم ; والسبب في ذلك أنهم جعلوا الكفر وستر الفطرة هو الذي يتحكم في قلوبهم ، فهم اختاروا تلك الأوهام المضلة ، وولاية الجبابرة المذلة ، واتباع الكبراء المردي ، ففتحوا بسبب ذلك قلوبهم للضلالة تدخل فيها جزءا جزءا حتى أظلمت وبعدت عن نور الفطرة ، وغلقت عليها [ ص: 953 ] أبواب الحق ، فلا يدخلها إلا ضلال ، وكأن للقلب بابين : بابا للنور ، وبابا للضلال ; فإن أركست النفس في الشهوات ، فإن باب الضلالة يتسع ويضيق باب الحق حتى يغلق فلا يدخل النور إليها .

                                                          وفي الجملة الكريمة السامية إشارات بيانية يجب التنبيه إليها :

                                                          أولها : أن الله سبحانه وتعالى قال : والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ففي التعبير بالذين كفروا إشارة بيانية إلى أنهم هم الذين ارتضوا أن يجعلوا الطغيان متحكما في قلوبهم ، إذ كفرهم واستيلاء الشهوات على نفوسهم هو الذي سهل استمراء ولاية الطاغوت عليهم ، وتحكمه فيهم ، وسيطرته على نفوسهم ، وحيث كانت الشهوات مستحكمة فللأوهام سلطان ، وللجبابرة سلطان ، وللكبراء المضلين مكان .

                                                          والثانية : أنه أفرد الطاغوت ، وجمع الأولياء ، ففي ذلك إشارة بيانية إلى أن الطاغوت مهما تتعدد ضروبه ، وأشكاله ومظاهر سلطانه ، فهو نوع واحد ، أساسه أن يتحكم الوهم والهوى والذل والضعف في النفس ولكن مع ذلك يتعدد سلطانه ، فهو مرة يظهر في مظهر ذي سلطان متجبر تخضع الرقاب لطغيانه لتحكم الذلة أو الشهوة الردية في نفوس الذين يتحكم فيهم ، ومرة يظهر سلطان الطاغوت في دعوة إلى الباطل زخرفها تمويه داعية مضل ، وأحيانا تكون في أوهام مسيطرة على الجماعة تجعلها تعبد حجرا أصم لا يسمع ولا يبصر ، وعلى ذلك يكون الطاغوت واحدا ; لأنه ضلال كيفما كان ، ولكن لتعدد مظاهر سلطانه تعددت ولاياته وكلها لا قوة لها أمام قوة الله سبحانه وتعالى علوا كبيرا .

                                                          والثالثة من الإشارات البيانية : ما تضمنه قوله تعالى : يخرجونهم من النور إلى الظلمات أي الضلالات الردية المختلفة الأنواع ، فإن في ذلك إشارة إلى أن الفطرة في أصلها نور ، ففي الفطرة الإنسانية نور الحق ووجدان الهداية ، والإيمان الفطري ، حتى يكون الضلال إذ تتحكم الأهواء والأوهام وتستخذي النفوس ، فكل [ ص: 954 ] مولود يولد على الفطرة ، وهي نور ، حتى يكون الضلال بما في النفس من استعداد له مع وجود ذلك النور .

                                                          أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون الإشارة إلى الذين كفروا ، وفي هذه الإشارة بيان إلى أن أحوالهم التي عرفوا بها من كفرهم ، ورضاهم بالطغيان حاكما عليهم متحكما فيهم مسيطرا على قلوبهم ، هي السبب في ذلك الحكم الخالد عليهم ، وهو أنهم أصحاب النار .

                                                          وفي التعبير بأصحاب النار إشارة إلى ملازمتهم لها ، وبقائهم فيها ، واختصاصها بهم ; لأن أصحاب جمع صاحب ، والصاحب هو الرفيق الملازم الذي اختصصت بصحبته ، فهذا التعبير أفاد ملازمتهم للنار واختصاص النار بهم .

                                                          وفي قوله تعالى : هم فيها خالدون تأكيد لبقائهم فيها واختصاصها بهم دون غيرها ; ذلك لأن التعبير بالجملة الاسمية فيه تأكيد ، وتكرار المسند إليه بذكر كلمة " هم " ، فيه فضل تأكيد ، وتقديم الجار والمجرور وهو " فيها " دليل على اختصاصها بخلودهم فيها فلا منفذ لهم في غيرها ; لأنهم سدوا على أنفسهم باب النور في الدنيا ، فسدت عليهم أبواب الرحمة في الدنيا والآخرة .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية