الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون

هذا من الاستدلال على أن التصرف القاهر لله تعالى ، وذلك أنه أعقب الاستدلال بالإحياء والإماتة ، وما بينهما من هرم بالاستدلال بالرزق .

ولما كان الرزق حاصلا لكل موجود بني الاستدلال على التفاوت فيه بخلاف الاستدلال بقوله تعالى والله خلقكم ثم يتوفاكم .

ووجه الاستدلال به على التصرف القاهر أن الرزق حاصل لجميع الخلق ، وأن تفاضل الناس فيه غير جار على رغباتهم ، ولا على استحقاقهم ، فقد تجد أكيس الناس وأجودهم عقلا وفهما مقترا عليه في الرزق ، وبضده ترى أجهل الناس وأقلهم تدبيرا موسعا عليه في الرزق ، وكلا الرجلين قد حصل به ما حصل قهرا عليه ، فالمقتر عليه لا يدري أسباب التقتير ، والموسع عليه لا يدري أسباب تيسير رزقه ، وذلك لأن الأسباب كثيرة متوالدة ومتسلسلة ومتوغلة في الخفاء حتى يظن أن أسباب الأمرين مفقودة ، وما هي بمفقودة ، ولكنها غير محاط بها ، ومما ينسب إلى الشافعي :


ومن الدليل على القضاء وكونـه بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق

[ ص: 214 ] ولذلك أسند التفضيل في الرزق إلى الله تعالى ; لأن أسبابه خارجة عن إحاطة عقول البشر ، والحكيم لا يستفزه ذلك بعكس قول ابن الراوندي :


كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه     وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة     وصير العالم النحرير زنديقا

وهذا الحكم دل على ضعف قائله في حقيقة العلم ، فكيف بالنحريرية ، وتفيد وراء الاستدلال معنى الامتنان لاقتضائها حصول الرزق للجميع .

فجملة والله فضل بعضكم على بعض في الرزق مقدمة للدليل ، ومنة من المنن ; لأن التفضيل في الرزق يقتضي الإنعام بأصل الرزق .

وليست الجملة مناط الاستدلال ، إنما الاستدلال في التمثيل من قوله تعالى فما الذين فضلوا برادي رزقهم الآية .

والقول في جعل المسند إليه اسم الجلالة وبناء المسند الفعلي عليه كالقول في قوله تعالى والله خلقكم ثم يتوفاكم ، والمعنى : الله - لا غيره - رزقكم جميعا ، وفضل بعضكم على بعض في الرزق ، ولا يسعكم إلا الإقرار بذلك له .

وقد تم الاستدلال عند قوله تعالى والله فضل بعضكم على بعض في الرزق بطريقة الإيجاز ، كما قيل : لمحة دالة .

وفرع على هذه الجملة تفريع بالفاء على وجه الإدماج قوله تعالى فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء ، وهو إدماج جاء على وجه التمثيل لتبيان ضلال أهل الشرك حين سووا بعض المخلوقات بالخالق فأشركوها في الإلهية ; فسادا في تفكيرهم ، وذلك مثل ما كانوا يقولون في تلبية الحج ( لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ) ، فمثل بطلان عقيدة الإشراك بالله بعض مخلوقاته بحالة أهل النعمة المرزوقين ; لأنهم لا يرضون أن يشركوا عبيدهم معهم في فضل رزقهم فكيف يسوون بالله عبيده في صفته العظمى وهي الإلهية ؟

[ ص: 215 ] ورشاقة هذا الاستدلال أن الحالتين المشبهتين والمشبه بهما حالتا مولى وعبد ، كما قال تعالى ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم .

والغرض من التمثيل تشنيع مقالتهم ، واستحالة صدقها بحسب العرف ، ثم زيادة التشنيع بأنهم رضوا لله ما يرضونه لأنفسهم ، كقوله تعالى ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون إلى قوله ولله المثل الأعلى .

وقرينة التمثيل والمقصد منه دلالة المقام .

وقوله تعالى فما الذين فضلوا نفي ، و ( ما ) نافية ، والباء في ( برادي رزقهم ) الباء التي تزاد في خبر النفي بـ ( ما ) و ( ليس ) .

والراد : المعطي ، كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - والخمس مردود عليكم أي فما هم بمعطين رزقهم لعبيدهم إعطاء مشاطرة بحيث يسوونهم بهم ، أي فما ذلك بواقع .

وإسناد الملك إلى اليمين مجاز عقلي ; لأن اليمين سبب وهمي للملك ; لأن سبب الملك إما أسر ، وهو أثر للقتال بالسيف الذي تمسكه اليد اليمنى ، وإما شراء ودفع الثمن يكون باليد اليمنى عرفا ، فهي سبب وهمي ناشئ عن العادة .

وفرعت جملة فهم فيه سواء على جملة فما الذين فضلوا برادي رزقهم ، أي لا يشاطرون عبيدهم رزقهم فيستووا فيه ، أي لا يقع ذلك فيقع هذا ، فموقع هذه الجملة الاسمية شبيه بموقع الفعل بعد فاء السببية في جواب النفي .

وأما جملة أفبنعمة الله يجحدون فصالحة لأن تكون مفرعة على جملة والله فضل بعضكم على بعض في الرزق باعتبار ما تضمنته من الامتنان ، أي تفضل الله عليكم جميعا بالرزق أفبنعمة الله تجحدون ؟ ، استفهاما مستعملا في التوبيخ ، بحيث أشركوا مع الذي أنعم عليهم آلهة لا حظ لها في الإنعام [ ص: 216 ] عليهم ، وذلك جحود النعمة كقوله تعالى إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له ، وتكون جملة فما الذين فضلوا إلى قوله تعالى فهم فيه سواء معترضة بين الجملتين .

وعلى هذا الوجه يكون في ( يجحدون ) على قراءة الجمهور بالتحتية التفات من الخطاب إلى الغيبة ، ونكتته أنهم لما كان المقصود من الاستدلال المشركين فكانوا موضع التوبيخ ناسب أن يعرض عن خطابهم ، وينالهم المقصود من التوبيخ بالتعريض كقول :


أبى لك كسب الحمد رأي مقصر     ونفس أضاق الله بالخير باعهـا
إذا هي حثته على الخير مرة     عصاها وإن همت بشر أطاعها

ثم صرح بما وقع التعريض به بقوله أفبنعمة الله يجحدون .

وقرأ أبو بكر عن عاصم ورويس عن يعقوب يجحدون بالمثناة الفوقية على مقتضى الظاهر ، ويكون الاستفهام مستعملا في التحذير .

وتصلح جملة أفبنعمة الله يجحدون أن تكون مفرعة على جملة ( فما الذين فضلوا برادي رزقهم ) ، فيكون التوبيخ متوجها إلى فريق من المشركين وهم الذين فضلوا بالرزق وهم أولو السعة منهم وسادتهم ، وقد كانوا أشد كفرا بالدين ، وتألبا على المسلمين ، أي أيجحد الذين فضلوا بنعمة الله إذ أفاض عليهم النعمة فيكونوا أشد إشراكا به ، كقوله تعالى وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا .

وعلى هذا الوجه يكون قوله تعالى ( يجحدون ) في قراءة الجمهور بالتحتية جاريا على مقتضى الظاهر ، وفي قراءة أبي بكر عن عاصم بالمثناة الفوقية التفاتا من الغيبة إلى خطابهم إقبالا عليهم بالخطاب ; لإدخال الروع في نفوسهم .

[ ص: 217 ] وقد عدي فعل ( يجحدون ) بالباء لتضمنه معنى يكفرون ، وتكون الباء لتوكيد تعلق الفعل بالمفعول مثل ( وامسحوا برءوسكم ) ، وتقديم ( بنعمة الله ) على متعلقه وهو ( يجحدون ) للرعاية على الفاصلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية