الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف (11) :

ولم يبين حكم الاثنتين، فنقل عن ابن عباس أن الآية نص قاطع في أن لا يزاد منه بسبب الثلثين شيء، فإن قوله: فوق اثنتين تقييد نصا، ونفي لما دون هذا العدد.

قال قائلون من العلماء: إن بيان الاثنتين كان ظاهرا في كتاب الله تعالى، وإنما احتاج إلى بيان أن الثنتين فصاعدا لا يزيد حقهم على الثلثين، فكان قوله: فوق اثنتين لنفي المزيد.

ووجه دلالة الآية على بيان حكم الاثنتين، أن الله تعالى لما أوجب للبنت الواحدة مع الابن الثلث، فإذا كان لها مع الذكر الثلث، فلأن لا تنقص من الثلث مع البنت أولى، ولو جعلنا للبنتين النصف، نقصت حصة الواحدة من الثلث.

ويمكن أن يعترض على هذا فيقال: إنما استحقت الثلث مع الذكر، لا لأن المأخوذ ثلث التركة التامة، بل لأنها عصبة بأخيها، والمال بينهما أثلاث، ولا يأخذان إلا ما بقي في حالة، وكل المال في حالة. أما البنت فتأخذ مقدارا من جملة التركة من غير نقصان من نصف الجملة، وذلك مقيد بشرط، فإذا لم يوجد الشرط لم يثبت القدر.

[ ص: 342 ] ويدل عليه أنه لو قال قائل: الابن ربما أخذ أقل من نصف التركة، والبنت لا تأخذ أقل من نصف جميع التركة، فيقال: لأن الابن عصبة فيأخذ ما بقي، والبنت صاحبة الفرض، وهذا بين.

ومما ذكره العلماء في ذلك، أن الله تعالى قال: للذكر مثل حظ الأنثيين فلو ترك بنتا وابنا، كان للابن سهمان ثلثا المال، وهو حظ الأنثيين، وهذا مثل الأول.

والاعتراض عليه كما مضى، فإن الابن لا يستحق ثلثي جميع التركة، بل يستحق بالعصوبة أي قدر، وتلك العصوبة تشمل الذكر والأنثى، والمال بينهما على نسبة التفاوت.

وأقوى ما قيل فيه، أن الله تعالى جعل للأختين الثلثين في نص الكتاب فقال: فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك ، ومعلوم أن أولاد الميت أولى من أولاد أب الميت، فدل أن بيان الاثنتين مقدر في كتاب الله تعالى.

واحتيج إلى بيان نفي المزيد على الثلثين عند زيادة عدد البنات، ولم يتعرض لهذا المعنى في ميراث الأخوات، لأن فيما ذكر من ميراث البنات بيان ذلك، ولم يذكر بيان البنتين في ميراث البنات، لأن فيما ذكر من ميراث الأخوات بيان ذلك، فاشتملت الآيتان على بيان نفي المزيد عند زيادة العدد، وعلى بيان ميراث البنتين، وهذا غاية البيان .

واستدلوا أيضا على ذلك بما روي عن ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 343 ] قضى في بنت، وبنت ابن، وأخت، بأن للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي للأخت، فإذا كان للبنت مع ابنة الابن من التركة الثلثان، فالبنتان أحق بذلك وأقرب، لأنهما أقرب من بنت الابن، وإن أمكن أن يعترض على هذا، فإن الذي لبنت الابن فرض آخر، وليس من ميراث البنت في شيء، وإنما الكلام في أن النصف إذا كان للواحد، فهل يزداد ذلك لسبب وجود بنت أخرى، أو يتقاسمان ذلك النصف، فأما السدس فلا تعلق له بفريضة البنت أصلا، وإنما اتفق أن المبلغين صارا إلى مقدار الثلثين.

وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في تركة سعد بن الربيع، للبنتين الثلثين، وللزوجة الثمن، والباقي لأخته .

وقضى بذلك في ابنتي ثابت بن قيس بن شماس.

والآية ليست نصا في نفي ما دون الثلثين عما دون الثلاث من البنات، بل محتملة ما ذكرناه.

وقد قيل: قوله "فوق" صلة وتأكيد، كأنه قال: "فإن كن نساء اثنتين" ومثله: فاضربوا فوق الأعناق ، وهذا تأويل بعيد، وما ذكرناه أولا هو الصحيح، ومما دلت الآية عليه أنه لما لم يبين مقدار ميراث البنتين، عرفنا من قوله تعالى في حق الأخ وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ، أن الأخ لما جعل عصبة حائزا للميراث مطلقا، فالابن بذلك أولى.

[ ص: 344 ] وجملة القول فيه أن الله تعالى لما بين كيف يقتسم الذكور والإناث، لم يحد ميراثهم بحد، لأنهم يرثون المال مرة جميعه، ومرة ما فضل عن فرض ذوي السهام، ولو حد لهم حدا، لضاربوا ذوي السهام إذا ضاق المال عن حمل السهام، ولأزيدوا عليه إذا انفردوا، وتحرجوا عن حكم من يرث بالتعصيب إلى حكم من يرث بالفرض، فهذا بيان معنى التعصيب في الميراث .

التالي السابق


الخدمات العلمية