الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 191 ] قوله عز وجل:

لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير

هذا النهي عن الاتخاذ إنما هو فيما يظهره المرء، فأما أن يتخذه بقلبه ونيته فلا يفعل ذلك مؤمن، والمنهيون هنا قد قرر لهم الإيمان، فالنهي إنما هو عبارة عن إظهار اللطف للكفار والميل إليهم، ولفظ الآية عام في جميع الأعصار.

واختلف الناس في سبب هذه الآية، فقال ابن عباس: كان كعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر بن زبير وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا مباطنتهم، فأبى أولئك النفر إلا موالاة اليهود، فنزلت الآية في ذلك. وقال قوم: نزلت الآية في قصة حاطب بن أبي بلتعة وكتابه إلى أهل مكة، والآية عامة في جميع هذا، ويدخل فيها فعل أبي لبابة في إشارته إلى حلقه [ ص: 192 ] حين بعثه النبي عليه الصلاة والسلام في استنزال بني قريظة. وأما تعذيب بني المغيرة لعمار فنزل فيما أباح النبي عليه الصلاة والسلام لعمار إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان .

وقوله تعالى: من دون عبارة عن كون الشيء الذي تضاف إليه "دون" غائبا متنحيا ليس من الأمر الأول في شيء، وفي المثل: "وأمر دون عبيدة الوذم" كأنه من غير أن ينتهي إلى الشيء الذي تضاف إليه، ورتبها الزجاج: المضادة للشرف من الشيء الدون، وفيما قاله نظر.

قوله: فليس من الله في شيء معناه: في شيء مرضي على الكمال والصواب، وهذا كما قال النبي عليه السلام: "من غشنا فليس منا" وفي الكلام حذف مضاف، تقديره: فليس من التقرب إلى الله أو التزلف ونحو هذا.

وقوله "في شيء" هو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله ( ليس من الله ) ثم أباح الله إظهار اتخاذهم بشرط الاتقاء، فأما إبطانه فلا يصح أن يتصف به مؤمن في حال.

وقرأ جمهور الناس "تقاة" أصله وقية - على وزن فعلة- بضم الفاء وفتح العين - أبدلوا من الواو تاء كتجاه وتكأة فصار تقية ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فجاء تقاة قال أبو علي: يجوز أن تكون تقاة مثل رماة حالا من "تتقوا" وهو جمع فاعل وإن كان لم يستعمل منه فاعل، ويجوز أن يكون جمع تقي وجعل فعيل بمنزلة فاعل.

[ ص: 193 ] وقرأ ابن عباس والحسن وحميد بن قيس ويعقوب الحضرمي ومجاهد وقتادة والضحاك وأبو رجاء والجحدري وأبو حيوة "تقية" - بفتح التاء وشد الياء - على وزن فعيلة، وكذلك روى المفضل عن عاصم، وأمال الكسائي القاف في "تقاة" في الموضعين، وأمال حمزة في هذه الآية ولم يمل في قوله: حق تقاته ، وفتح سائر القراء القاف إلا أن نافعا كان يقرؤها بين الفتح والكسر.

وذهب قتادة إلى أن معنى الآية: إلا أن تتقوا منهم تقاة من جهة صلة الرحم أي: ملامة، فكأن الآية عنده مبيحة الإحسان إلى القرابة من الكفار. وذهب جمهور المفسرين إلى أن معنى الآية: إلا أن تخافوا منهم خوفا، وهذا هو معنى التقية. واختلف العلماء في التقية ممن تكون؟ وبأي شيء تكون؟ وأي شيء تبيح؟ فأما الذي تكون منه التقية; فكل قادر غالب يكره بجور منه، فيدخل في ذلك الكفار إذا غلبوا وجورة الرؤساء والسلابة، وأهل الجاه في الحواضر. قال مالك رحمه الله: وزوج المرأة قد يكره.

وأما بأي شيء تكون التقية ويترتب حكمها؟ فذلك بخوف القتل، وبالخوف على الجوارح، وبالضرب بالسوط، وبسائر التعذيب، فإذا فعل بالإنسان شيء من هذا أو خافه خوفا متمكنا; فهو مكره وله حكم التقية. والسجن إكراه، والتقييد إكراه، والتهديد والوعيد إكراه، وعداوة أهل الجاه الجورة تقية. وهذه كلها بحسب حال المكره وبحسب الشيء الذي يكره عليه، فكم من الناس ليس السجن فيهم بإكراه، وكذلك الرجل العظيم يكره بالسجن والضرب غير المتلف ليكفر، فهذا لا تتصور تقيته من جهة عظم الشيء الذي طلب منه، ومسائل الإكراه هي من النوع الذي يدخله فقه الحال.

وأما أي شيء تبيح؟ فاتفق العلماء على إباحتها للأقوال باللسان; من الكفر وما دونه، ومن بيع وهبة وطلاق، وإطلاق القول بهذا كله، ومن مداراة ومصانعة. وقال ابن مسعود: ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلما به. واختلف الناس في الأفعال، فقال جماعة من أهل العلم; منهم الحسن ومكحول ومسروق: [ ص: 194 ] يفعل المكره كل ما حمل عليه مما حرم الله فعله، وينجي نفسه بذلك. وقال مسروق: فإن لم يفعل حتى مات دخل النار. وقال كثير من أهل العلم منهم سحنون: بل إن لم يفعل حتى مات فهو مأجور، وتركه ذلك المباح أفضل من استعماله. وروي أن عمر بن الخطاب قال في رجل يقال له: نهيت بن الحارث، أخذته الفرس أسيرا، فعرض عليه شرب الخمر وأكل الخنزير وهدد بالنار فلم يفعل فقذفوه فيها، فبلغ ذلك عمر فقال: وما كان على نهيت أن يأكل؟. وقال جمع كثير من العلماء: التقية إنما هي مبيحة للأقوال، فأما الأفعال فلا، روي ذلك عن ابن عباس والربيع والضحاك، وروي ذلك عن سحنون، وقال الحسن في الرجل يقال له: اسجد لصنم وإلا قتلناك، قال: إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد ويجعل نيته لله، فإن كان إلى غير القبلة فلا وإن قتلوه، قال ابن حبيب: وهذا قول حسن.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وما يمنعه أن يجعل نيته لله وإن كان لغير قبلة، وفي كتاب الله: فأينما تولوا فثم وجه الله . وفي الشرع إباحة التنفل للمسافر إلى غير القبلة. هذه قواعد مسألة التقية، وأما تشعب مسائلها فكثير لا يقتضي الإيجاز جمعه.

وقوله تعالى: ويحذركم الله نفسه ... إلى آخر الآية، وعيد وتنبيه ووعظ وتذكير بالآخرة. وقوله تعالى:" نفسه" نائبة عن إياه، وهذه مخاطبة على معهود ما يفهمه البشر، والنفس في مثل هذا راجع إلى الذات، وفي الكلام حذف مضاف لأن التحذير إنما هو من عقاب وتنكيل ونحوه، فقال ابن عباس والحسن: ويحذركم الله عقابه..

التالي السابق


الخدمات العلمية