الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1966 - مسألة : من قال : إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق ، أو ذكر وقتا ما ؟ فلا تكون طالقا بذلك ، لا الآن ، ولا إذا جاء رأس الشهر .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك - : أنه لم يأت قرآن ولا سنة بوقوع الطلاق بذلك ، وقد علمنا الله الطلاق على المدخول بها ، وفي غير المدخول بها ، وليس هذا فيما علمنا { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } .

                                                                                                                                                                                          وأيضا - فإن كان كل طلاق لا يقع حين إيقاعه فمن المحال أن يقع بعد ذلك في حين لم يوقعه فيه - وقد اختلف الناس في هذا - : فقالت طائفة : من طلق إلى أجل لم يقع [ بذلك ] الطلاق إلا إلى ذلك الأجل - كما روينا من طريق أبي عبيد نا يزيد بن هارون عن الجراح بن المنهال نا الحكم - هو ابن عتيبة - أن ابن عباس كان يقول : من قال لامرأته : أنت طالق إلى رأس السنة - : أنه يطؤها ما بينه وبين رأس السنة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء من قال لامرأته : أنت طالق إذا ولدت ؟ فله أن يصيبها ما لم تلد - ولا يطلق حتى يأتي الأجل .

                                                                                                                                                                                          وكذلك من قال : أنت طالق إلى سنة

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي عبيد نا يزيد بن هارون عن حبيب بن أبي حبيب عن عمرو بن هرم عن جابر بن زيد أبي الشعثاء قال : هي طالق إلى الأجل الذي سمي ، وتحل له ما دون ذلك . [ ص: 480 ]

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي عبيد نا هشيم أنا مغيرة عن إبراهيم النخعي فيمن وقت في الطلاق وقتا ، قال : إذا جاء ذلك الوقت وقع .

                                                                                                                                                                                          ورويناه أيضا عن الشعبي .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور نا أبو معاوية عن عبيدة عن الشعبي مثل قول إبراهيم - وروي أيضا : عن عبد الله بن محمد بن الحنفية .

                                                                                                                                                                                          وروينا عن سفيان الثوري قال : من قال لامرأته : إذا حضت فأنت طالق ؟ فإنها إذا دخلت في الدم طلقت عليه . قال : فإن قال لها : متى حضت حيضة فأنت طالق ؟ فلا تطلق حتى تغتسل من آخر حيضتها ، لأنه يراجعها حتى تغتسل . وبأن : لا يقع الطلاق المؤجل إلا إلى أجله

                                                                                                                                                                                          - : يقول أبو عبيد ، وإسحاق بن راهويه ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو سليمان ، وأصحابهم . وقول آخر - وهو أن الطلاق يقع في ذلك ساعة يلفظ به - : روينا ذلك من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب فيمن طلق امرأته إلى أجل ؟ قال : يقع الطلاق ساعتئذ ولا يقربها .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم نا منصور ، ويونس عن الحسن : أنه كان لا يؤجل في الطلاق - .

                                                                                                                                                                                          وروينا عن الزهري من طلق إلى سنة ؟ فهي طالق حينئذ .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي عبيد عن هشيم عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه كان لا يؤجل في الطلاق أجلا .

                                                                                                                                                                                          وروي عن ربيعة - وهو قول الليث ، وأحد قولي أبي حنيفة - وهو قول زفر .

                                                                                                                                                                                          وقول ثالث - كما روينا من طريق عبد الرزاق نا معمر عن قتادة عن الحسن أنه قال : إذا قال : أنت طالق إذا كان كذا - لأمر لا يدري أيكون أم لا ؟ - فليس بطلاق حتى [ ص: 481 ] يكون ذلك ويطؤها ، فإن ماتا قبل ذلك توارثا . فإن قال : أنت طالق إلى سنة فهي طالق حين يقول ذلك - وهو قول مالك .

                                                                                                                                                                                          وقول رابع - روي عن ابن أبي ليلى فيمن قال لامرأته : أنت طالق إلى رأس الهلال ؟ قال : أتخوف أن يكون قد طلقها ؟ فوجدنا من حجة من قال : بأنه وقع عليه الطلاق الآن - : أن قالوا : هذا الطلاق إلى أجل ، فهو باطل كالنكاح إلى أجل ؟ فقلنا لهم : فلم قلتم : إنه إن قال : إن دخلت الدار فأنت طالق ؟ أنها لا تطلق إلا بدخول الدار ، فإنه طلاق إلى أجل ، فأوقعتموه حين لفظ به .

                                                                                                                                                                                          وبهذا نعارضهم في قولهم : إن ظاهر أمره أنه ندم إذ قال : أنت طالق ، فأتبع ذلك بالأجل ؟ فيلزمهم ذلك فيمن قال : أنت طالق إن دخلت الدار .

                                                                                                                                                                                          وهو قول صح عن شريح ألزمه الطلاق - دخلت الدار أو لم تدخله .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : إذا قال : أنت طالق ، فالطلاق مباح ، فإن أتبعه أجلا فهو شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل ؟ فقلنا : بل ما طلاقه إلا فاسد لا مباح ؟ إذ علقه بوقت ، ولا يجوز إلزامه بعض ما التزم دون سائره - فظهر فساد هذا القول ، ويكفي من هذا أنه تحريم فرج بالظن على من أباحه الله تعالى له باليقين - ونعوذ بالله من هذا .

                                                                                                                                                                                          ولم نجد لمن فرق بين الأجل الآتي والآبد ، وبين الأجل الذي لا يأتي حجة أصلا ، غير دعواه ؟ لا سيما وهم يفسدون النكاح إذا أجل الصداق إلى أجل قد يكون وقد لا يكون ، بعكس قولهم في الطلاق ؟ وكلا الأمرين أجل ولا فرق .

                                                                                                                                                                                          وأيضا - فقد يأتي الأجل الذي قالوا فيه : إنه يجيء - وهو ميت أو وهي ميتة ، أو كلاهما ، أو قد طلقها ثلاثا - : فظهر فساد هذا القول جملة - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وهم يشنعون خلاف الصاحب الذي لا يعرف له مخالف ؟ وقد خالفوا هاهنا ابن عباس ، وأيضا - فإنهم يوقعون عليه طلاقا لم يلتزمه قط ؟ وهذا باطل . [ ص: 482 ]

                                                                                                                                                                                          ثم لو عكس عليهم قولهم ، فقيل : بل تطلق عليه إذا أجل أجلا - قد يكون وقد لا يكون - ساعة لفظه بالطلاق ، ولا تطلق عليه إذا أجل أجلا يأتي ولا بد ، لما كان بينهم فرق أصلا - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا فيما يحتج به من أجاز ذلك وجعل الطلاق يقع إذا جاء الأجل - لا قبل ذلك - بأن قال : قال الله تعالى : { أوفوا بالعقود } ؟ فقلنا : إنما هذا في كل عقد أمر الله تعالى بالوفاء به ، أو ندب إليه - لا في كل عقد جملة ، ولا في معصية ، ومن المعاصي أن يطلق بخلاف ما أمر الله تعالى به ، فلا يحل الوفاء به .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : " المسلمون عند شروطهم " .

                                                                                                                                                                                          وهذا كالذي قبله ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل } .

                                                                                                                                                                                          والطلاق إلى أجل مشترط بشرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : نقيس ذلك على المداينة إلى أجل ، والعتق إلى أجل ؟ فقلنا : القياس باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه باطلا ، لأن المداينة والعتق قد جاء في جوازهما إلى أجل النص ، ولم يأت ذلك في الطلاق .

                                                                                                                                                                                          ثم لو كان القياس حقا لكان هذا منه باطلا ، لأنكم مجمعون على أن النكاح إلى أجل لا يجوز ، وأن ذلك النكاح باطل ، فهلا قستم الطلاق إلى أجل على ذلك .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : قد أجمعوا على وقوع الطلاق عند الأجل ، لأن من أوقعه حين نطق به فقد أجازه ، فالواجب المصير إلى ما اتفقوا عليه ؟ فقلنا : هذا باطل ، وما أجمعوا قط على ذلك ، لأن من أوقع الطلاق - حين لفظ به المطلق - لم يجز قط أن يؤخر إيقاعه إلى أجل والذين أوقعوه عند الأجل لم يجيزوا إيقاعه حين نطق به .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : هذا قول صاحب لا يعرف له من الصحابة مخالف ؟

                                                                                                                                                                                          [ ص: 483 ] فقلنا : هذا من رواية أبي العطوف الجراح بن المنهال الجزري - وهو كذاب مشهور بوضع الحديث - فبطل هذا القول أيضا - .

                                                                                                                                                                                          والحمد لله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية