الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن وبخ الله عز وجل بهذه الآية كفار قريش بما آمنت به الجن . وفي سبب صرفهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنهم صرفوا إليه بسبب ما حدث من رجمهم بالشهب . روى البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث ابن عباس قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الأمر، فمر النفر الذين توجهوا نحو تهامة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو بـ "نخلة" وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا [ ص: 388 ] القرآن تسمعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد [الجن: 1 -2] . فأنزل الله على نبيه قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن [الجن: 1] . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن، ولا رآهم، وإنما أتوه وهو بـ "نخلة" فسمعوا القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنهم صرفوا إليه لينذرهم، وأمر أن يقرأ عليهم القرآن، هذا مذهب جماعة، منهم قتادة . وفي أفراد مسلم من حديث علقمة قال: قلت لعبد الله: من كان منكم مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ فقال: ما كان منا معه أحد، فقدناه ذات ليلة ونحن بمكة، فقلنا: اغتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو استطير، فانطلقنا نطلبه في الشعاب، فلقيناه مقبلا من نحو حراء، فقلنا: يا رسول الله، أين كنت؟ لقد أشفقنا عليك، وقلنا له: بتنا الليلة بشر ليلة بات بها قوم حين فقدناك، فقال: "إنه أتاني داعي الجن، فذهبت أقرئهم القرآن"، فذهب بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم . وقال قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني أمرت أن أقرأ على الجن، فأيكم يتبعني؟" فأطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا، فأتبعه عبد الله بن مسعود، فدخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعبا يقال له: "شعب الحجون"، وخط على عبد الله خطا ليثبته به، قال: فسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجع قلت: يا نبي الله، ما اللغط [ ص: 389 ] الذي سمعت؟ قال: "اجتمعوا إلي في قتيل كان بينهم، فقضيت بينهم بالحق"

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنهم مروا به وهو يقرأ، فسمعوا القرآن . فذكر بعض المفسرين أنه لما يئس من أهل مكة أن يجيبوه، خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام- وقيل: ليلتمس نصرهم- وذلك بعد موت أبي طالب، فلما كان ببطن نخلة قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر، فمر به نفر من أشراف جن نصيبين، فاستمعوا القرآن . فعلى هذا القول والقول الأول، لم يعلم بحضورهم حتى أخبره الله تعالى; وعلى القول الثاني، علم بهم حين جاءوا . وفي المكان الذي سمعوا فيه تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم قولان . أحدهما: الحجون، وقد ذكرناه عن ابن مسعود، وبه قال قتادة . والثاني: بطن نخلة، وقد ذكرناه عن ابن عباس، وبه قال مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما النفر، فقال ابن قتيبة : يقال: إن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة . وللمفسرين في عدد هؤلاء النفر ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنهم كانوا سبعة، قاله ابن مسعود، وزر بن حبيش، ومجاهد، ورواه عكرمة عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 390 ] والثاني: تسعة، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: اثني عشر ألفا، روي عن عكرمة، ولا يصح، لأن النفر لا يطلق على الكثير .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فلما حضروه أي: حضروا استماعه، و قضي يعني: فرغ من تلاوته ولوا إلى قومهم منذرين أي: محذرين عذاب الله عز وجل إن لم يؤمنوا .

                                                                                                                                                                                                                                      وهل أنذروا قومهم من قبل أنفسهم، أم جعلهم رسول الله رسلا إلى قومهم؟ فيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      قال عطاء: كان دين أولئك الجن اليهودية، فلذلك قالوا: من بعد موسى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: أجيبوا داعي الله يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم . وهذا يدل على أنه أرسل إلى الجن والإنس .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: يغفر لكم من ذنوبكم "من" هاهنا صلة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 391 ] قوله تعالى: فليس بمعجز في الأرض أي: لا يعجز الله تعالى وليس له من دونه أولياء أي: أنصار يمنعونه من عذاب الله تعالى أولئك الذين لا يجيبون الرسل في ضلال مبين .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية