بسم الله الرحمن الرحيم كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة
1132 حدثنا حدثنا حفص بن عمر قال أخبرني شعبة عن عبد الملك بن عمير قزعة قال سمعت رضي الله عنه أربعا قال سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم وكان غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة ح حدثنا أبا سعيد حدثنا علي عن سفيان عن الزهري عن سعيد رضي الله عنه أبي هريرة لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة
التالي
السابق
[ ص: 76 ] قوله : ( باب مسجد مكة والمدينة ) ثبت في نسخة فضل الصلاة في الصغاني البسملة قبل الباب ، قال ابن رشيد : لم يقل في الترجمة : وبيت المقدس وإن كان مجموعا إليهما في الحديث لكونه أفرده بعد ذلك بترجمة ، قال : وترجم بفضل الصلاة ، وليس في الحديث ذكر الصلاة ليبين أن المراد بالرحلة إلى المساجد قصد الصلاة فيها ، لأن لفظ المساجد مشعر بالصلاة . . انتهى . وظاهر إيراد المصنف لهذه الترجمة في أبواب التطوع يشعر بأن المراد بالصلاة في الترجمة صلاة النافلة ، ويحتمل أن يراد بها ما هو أعم من ذلك فيدخل النافلة ، وهذا أوجه ، وبه قال الجمهور في حديث الباب ، وذهب إلى أن التفضيل مختص بصلاة الفريضة كما سيأتي . الطحاوي
[ ص: 77 ] قوله : ( أخبرني ) هو ابن عمير كما وقع في رواية عبد الملك أبي ذر ، والأصيلي .
قوله : ( عن قزعة ) بفتح القاف وكذا الزاي ، وحكى سكونها بعدها مهملة ، هو ابن الأثير ابن يحيى ، ويقال : ابن الأسود ، وسيأتي بعد خمسة أبواب في هذا الإسناد : " سمعت قزعة مولى زياد " ، وهو هذا ، وزياد مولاه هو ابن أبي سفيان الأمير المشهور ، ورواية عنه من رواية الأقران ، لأنهما من طبقة واحدة . عبد الملك بن عمير
قوله : ( سمعت أبا سعيد أربعا ) أي يذكر أربعا ، أو سمعت منه أربعا أي أربع كلمات .
قوله : ( وكان غزا ) القائل ذلك هو قزعة ، والمقول عنه أبو سعيد الخدري .
قوله : ( ثنتي عشرة غزوة ) كذا اقتصر المؤلف على هذا القدر ، ولم يذكر من المتن شيئا ، وذكر بعده حديث في شد الرحال ، فظن أبي هريرة الداودي الشارح أن ساق الإسنادين لهذا المتن ، وفيه نظر ، لأن حديث البخاري أبي سعيد مشتمل على أربعة أشياء كما ذكر المصنف ، وحديث مقتصر على شد الرحال فقط ، لكن لا يمنع الجمع بينهما في سياق واحد بناء على قاعدة أبي هريرة في إجازة اختصار الحديث ، وقال البخاري ابن رشيد : لما كان أحد الأربع هو قوله : " لا تشد الرحال " ذكر صدر الحديث إلى الموضع الذي يتلاقى فيه افتتاح لحديث أبي هريرة أبي سعيد ، فاقتطف الحديث ، وكأنه قصد بذلك الإغماض لينبه غير الحافظ على فائدة الحفظ ، على أنه ما أخلاه عن الإيضاح عن قرب ، فإنه ساقه بتمامه خامس ترجمة .
قوله : ( وحدثنا ) هو ابن المديني ، علي ، وسفيان هو ابن عيينة ، ووقع عند وسعيد هو ابن المسيب وجه آخر عن البيهقي ، قال : " حدثنا به علي بن المديني سفيان مرة بهذا اللفظ ، وكان أكثر ما يحدث به بلفظ : تشد الرحال " .
قوله : ( لا تشد الرحال ) بضم أوله بلفظ النفي ، والمراد النهي عن السفر إلى غيرها ، قال الطيبي : هو أبلغ من صريح النهي ، كأنه قال : لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به ، والرحال بالمهملة جمع رحل ، وهو للبعير كالسرج للفرس ، وكنى بشد الرحال عن السفر ، لأنه لازمه ، وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر ، وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والمشي في المعنى المذكور ، ويدل عليه قوله في بعض طرقه : " إنما يسافر " . أخرجه مسلم من طريق عمران بن أبي أنس ، عن سليمان الأغر ، عن . أبي هريرة
قوله : ( إلا ) الاستثناء مفرغ والتقدير لا تشد الرحال إلى موضع ، ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها ، لأن المستثنى منه في المفرغ مقدر بأعم العام ، لكن يمكن أن يكون المراد بالعموم هنا الموضع المخصوص ، وهو المسجد كما سيأتي .
قوله : ( المسجد الحرام ) ؛ أي المحرم ، وهو كقولهم : الكتاب ، بمعنى المكتوب ، والمسجد بالخفض على البدلية ، ويجوز الرفع على الاستئناف ، والمراد به جميع الحرم ، وقيل : يختص بالموضع الذي يصلى فيه دون البيوت وغيرها من أجزاء الحرم ، قال الطبري : ويتأيد بقوله : " مسجدي هذا " . لأن الإشارة فيه إلى مسجد الجماعة ، فينبغي أن يكون المستثنى كذلك ، وقيل : المراد به الكعبة . حكاه المحب الطبري ، وذكر أنه يتأيد بما [ ص: 78 ] رواه بلفظ : " إلا النسائي الكعبة " . وفيه نظر ، لأن الذي عند : " إلا النسائي مسجد الكعبة " ، حتى ولو سقطت لفظة مسجد لكانت مرادة ، ويؤيد الأول ما رواه الطيالسي من طريق عطاء ، أنه قيل له : هذا الفضل في المسجد وحده أو في الحرم ؟ قال : بل في الحرم ، لأنه كله مسجد .
قوله : ( ومسجد الرسول ) أي محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي العدول عن " مسجدي " إشارة إلى التعظيم ، ويحتمل أن يكون ذلك من تصرف الرواة ، ويؤيده قوله في حديث أبي سعيد الآتي قريبا : " ومسجدي " .
قوله : ( ومسجد الأقصى ) أي بيت المقدس ، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة ، وقد جوزه الكوفيون ، واستشهدوا له بقوله تعالى : وما كنت بجانب الغربي والبصريون يؤولونه بإضمار المكان ، أي الذي بجانب المكان الغربي ، ومسجد المكان الأقصى ، ونحو ذلك ، وسمي الأقصى لبعده عن المسجد الحرام في المسافة ، وقيل : في الزمان ، وفيه نظر ، لأنه ثبت في الصحيح أن بينهما أربعين سنة ، وسيأتي في ترجمة إبراهيم الخليل من أحاديث الأنبياء ، وبيان ما فيه من الإشكال والجواب عنه ، وقال : سمي الأقصى لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد ، وقيل : لبعده عن الأقذار والخبث ، وقيل : هو أقصى بالنسبة إلى مسجد الزمخشري المدينة ، لأنه بعيد من مكة ، وبيت المقدس أبعد منه . ولبيت المقدس عدة أسماء تقرب من العشرين منها : إيلياء بالمد والقصر ، وبحذف الياء الأولى ، وعن ابن عباس إدخال الألف واللام على هذا الثالث ، وبيت المقدس بسكون القاف وبفتحها مع التشديد ، والقدس بغير ميم مع ضم القاف ، وسكون الدال ، وبضمها أيضا ، وشلم بالمعجمة وتشديد اللام وبالمهملة ، وشلام بمعجمة ، وسلم بفتح المهملة وكسر اللام الخفيفة ، وأوري سلم بسكون الواو ، وبكسر الراء بعدها تحتانية ساكنة ، قال الأعشى :
وفي هذا الحديث فضيلة هذه المساجد ومزيتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء ، ولأن الأول قبلة الناس وإليه حجهم ، والثاني كان قبلة الأمم السالفة ، والثالث أسس على التقوى . واختلف في شد الرحال إلى غيرها لقصد التبرك بها والصلاة فيها ، فقال ، كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتا ، وإلى المواضع الفاضلة : يحرم شد الرحال إلى غيرها عملا بظاهر هذا الحديث ، وأشار الشيخ أبو محمد الجويني القاضي حسين إلى اختياره ، وبه قال عياض وطائفة ، ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار بصرة الغفاري على خروجه إلى أبي هريرة الطور ، وقال له : " لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت " . واستدل بهذا الحديث ، فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه ، ووافقه . والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية أنه لا يحرم ، وأجابوا عن الحديث بأجوبة ؛ منها أن المراد أن أبو هريرة ، فإنه جائز ، وقد وقع في رواية الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه المساجد بخلاف غيرها لأحمد - سيأتي ذكرها - بلفظ : " لا ينبغي للمطي [ ص: 79 ] أن تعمل " . وهو لفظ ظاهر في غير التحريم [1] ومنها أن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة ، فإنه لا يجب الوفاء به قاله ابن بطال ، وقال : اللفظ لفظ الخبر ، ومعناه الإيجاب فيما ينذره الإنسان من الصلاة في البقاع التي يتبرك بها ، أي لا يلزم الوفاء بشيء من ذلك غير هذه المساجد الثلاثة ، ومنها أن المراد حكم المساجد فقط ، وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة ، وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح ، أو قريب ، أو صاحب ، أو طلب علم ، أو تجارة ، أو نزهة فلا يدخل في النهي ، ويؤيده ما روى الخطابي أحمد من طريق ، قال : سمعت شهر بن حوشب أبا سعيد وذكرت عنده الصلاة في الطور ، فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي . لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة غير وشهر حسن الحديث ، وإن كان فيه بعض الضعف . ومنها أن المراد قصدها بالاعتكاف فيما حكاه ، عن بعض السلف ، أنه قال : لا يعتكف في غيرها ، وهو أخص من الذي قبله ، ولم أر عليه دليلا ، واستدل به على أن من نذر إتيان أحد هذه المساجد لزمه ذلك ، وبه قال الخطابي مالك ، وأحمد ، ، والشافعي ، واختاره والبويطي ، وقال أبو إسحاق المروزي أبو حنيفة : لا يجب مطلقا ، وقال في " الأم " : يجب في الشافعي المسجد الحرام لتعلق النسك به بخلاف المسجدين الأخيرين ، وهذا هو المنصور لأصحاب ، وقال الشافعي ابن المنذر : يجب إلى الحرمين ، وأما الأقصى فلا ، واستأنس بحديث جابر : مكة أن أصلي في بيت المقدس ، قال : صل هاهنا . وقال أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إني نذرت إن فتح الله عليك ابن التين : الحجة على أن أعمال المطي إلى الشافعي مسجد المدينة والمسجد الأقصى والصلاة فيهما قربة ، فوجب أن يلزم بالنذر كالمسجد الحرام . انتهى . وفيما يلزم من نذر إتيان هذه المساجد تفصيل وخلاف يطول ذكره ، محله كتب الفروع ، واستدل به على أن من لم يلزمه غيرها ، لأنها لا فضل لبعضها على بعض ، فتكفي صلاته في أي مسجد كان ، قال نذر إتيان غير هذه المساجد الثلاثة لصلاة أو غيرها النووي : لا اختلاف في ذلك إلا ما روي عن الليث أنه قال : يجب الوفاء به ، وعن الحنابلة رواية : يلزمه كفارة يمين ، ولا ينعقد نذره ، وعن المالكية رواية : إن تعلقت به عبادة تختص به كرباط لزم ، وإلا فلا ، وذكر عن محمد بن مسلمة المالكي أنه يلزم في مسجد قباء لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه كل سبت كما سيأتي ، قال الكرماني : وقع في هذه المسألة في عصرنا في البلاد الشامية مناظرات كثيرة ، وصنف فيها رسائل من الطرفين ، قلت : يشير إلى ما رد به الشيخ تقي الدين السبكي وغيره على الشيخ تقي الدين ابن تيمية ، وما انتصر به الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي وغيره لابن تيمية ، وهي مشهورة في بلادنا ، والحاصل أنهم ألزموا ابن تيمية بتحريم شد الرحل [2] إلى ، وأنكرنا [ ص: 80 ] صورة ذلك ، وفي شرح ذلك من الطرفين طول ، وهي من أبشع المسائل المنقولة عن زيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن تيمية ، ومن جملة ما استدل به على دفع ما ادعاه غيره من الإجماع على مشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ما نقل عن مالك ، أنه كره أن يقول : زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد أجاب عنه المحققون من أصحابه بأنه كره اللفظ أدبا لا أصل الزيارة ، فإنها من أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال ، وأن مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع ، والله الهادي إلى الصواب .
قال بعض المحققين : قوله " إلا إلى ثلاثة مساجد " المستثنى منه محذوف ، فإما أن يقدر عاما فيصير : لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة ، أو أخص من ذلك . لا سبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم وغيرها ، فتعين الثاني ، والأولى أن يقدر ما هو أكثر مناسبة ، وهو : لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا إلى الثلاثة ، فيبطل بذلك قول من منع شد الرحال إلى زيارة القبر الشريف وغيره من قبور الصالحين ، والله أعلم . وقال السبكي الكبير : ليس في الأرض بقعة لها فضل لذاتها حتى تشد الرحال إليها غير البلاد الثلاثة ، ومرادي بالفضل المراد به ما شهد الشرع باعتباره ، ورتب عليه حكما شرعيا ، وأما غيرها من البلاد فلا تشد إليها لذاتها ، بل لزيارة أو جهاد أو علم أو نحو ذلك من المندوبات أو المباحات ، قال : وقد التبس ذلك على بعضهم ، فزعم أن شد الرحال إلى الزيارة لمن في غير الثلاثة داخل في المنع ، وهو خطأ لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه ، فمعنى الحديث : لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد ، أو إلى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان إلا إلى الثلاثة المذكورة ، وشد الرحال إلى زيارة أو طلب علم ليس إلى المكان بل إلى من في ذلك المكان ، والله أعلم .
[ ص: 77 ] قوله : ( أخبرني ) هو ابن عمير كما وقع في رواية عبد الملك أبي ذر ، والأصيلي .
قوله : ( عن قزعة ) بفتح القاف وكذا الزاي ، وحكى سكونها بعدها مهملة ، هو ابن الأثير ابن يحيى ، ويقال : ابن الأسود ، وسيأتي بعد خمسة أبواب في هذا الإسناد : " سمعت قزعة مولى زياد " ، وهو هذا ، وزياد مولاه هو ابن أبي سفيان الأمير المشهور ، ورواية عنه من رواية الأقران ، لأنهما من طبقة واحدة . عبد الملك بن عمير
قوله : ( سمعت أبا سعيد أربعا ) أي يذكر أربعا ، أو سمعت منه أربعا أي أربع كلمات .
قوله : ( وكان غزا ) القائل ذلك هو قزعة ، والمقول عنه أبو سعيد الخدري .
قوله : ( ثنتي عشرة غزوة ) كذا اقتصر المؤلف على هذا القدر ، ولم يذكر من المتن شيئا ، وذكر بعده حديث في شد الرحال ، فظن أبي هريرة الداودي الشارح أن ساق الإسنادين لهذا المتن ، وفيه نظر ، لأن حديث البخاري أبي سعيد مشتمل على أربعة أشياء كما ذكر المصنف ، وحديث مقتصر على شد الرحال فقط ، لكن لا يمنع الجمع بينهما في سياق واحد بناء على قاعدة أبي هريرة في إجازة اختصار الحديث ، وقال البخاري ابن رشيد : لما كان أحد الأربع هو قوله : " لا تشد الرحال " ذكر صدر الحديث إلى الموضع الذي يتلاقى فيه افتتاح لحديث أبي هريرة أبي سعيد ، فاقتطف الحديث ، وكأنه قصد بذلك الإغماض لينبه غير الحافظ على فائدة الحفظ ، على أنه ما أخلاه عن الإيضاح عن قرب ، فإنه ساقه بتمامه خامس ترجمة .
قوله : ( وحدثنا ) هو ابن المديني ، علي ، وسفيان هو ابن عيينة ، ووقع عند وسعيد هو ابن المسيب وجه آخر عن البيهقي ، قال : " حدثنا به علي بن المديني سفيان مرة بهذا اللفظ ، وكان أكثر ما يحدث به بلفظ : تشد الرحال " .
قوله : ( لا تشد الرحال ) بضم أوله بلفظ النفي ، والمراد النهي عن السفر إلى غيرها ، قال الطيبي : هو أبلغ من صريح النهي ، كأنه قال : لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به ، والرحال بالمهملة جمع رحل ، وهو للبعير كالسرج للفرس ، وكنى بشد الرحال عن السفر ، لأنه لازمه ، وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر ، وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والمشي في المعنى المذكور ، ويدل عليه قوله في بعض طرقه : " إنما يسافر " . أخرجه مسلم من طريق عمران بن أبي أنس ، عن سليمان الأغر ، عن . أبي هريرة
قوله : ( إلا ) الاستثناء مفرغ والتقدير لا تشد الرحال إلى موضع ، ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها ، لأن المستثنى منه في المفرغ مقدر بأعم العام ، لكن يمكن أن يكون المراد بالعموم هنا الموضع المخصوص ، وهو المسجد كما سيأتي .
قوله : ( المسجد الحرام ) ؛ أي المحرم ، وهو كقولهم : الكتاب ، بمعنى المكتوب ، والمسجد بالخفض على البدلية ، ويجوز الرفع على الاستئناف ، والمراد به جميع الحرم ، وقيل : يختص بالموضع الذي يصلى فيه دون البيوت وغيرها من أجزاء الحرم ، قال الطبري : ويتأيد بقوله : " مسجدي هذا " . لأن الإشارة فيه إلى مسجد الجماعة ، فينبغي أن يكون المستثنى كذلك ، وقيل : المراد به الكعبة . حكاه المحب الطبري ، وذكر أنه يتأيد بما [ ص: 78 ] رواه بلفظ : " إلا النسائي الكعبة " . وفيه نظر ، لأن الذي عند : " إلا النسائي مسجد الكعبة " ، حتى ولو سقطت لفظة مسجد لكانت مرادة ، ويؤيد الأول ما رواه الطيالسي من طريق عطاء ، أنه قيل له : هذا الفضل في المسجد وحده أو في الحرم ؟ قال : بل في الحرم ، لأنه كله مسجد .
قوله : ( ومسجد الرسول ) أي محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي العدول عن " مسجدي " إشارة إلى التعظيم ، ويحتمل أن يكون ذلك من تصرف الرواة ، ويؤيده قوله في حديث أبي سعيد الآتي قريبا : " ومسجدي " .
قوله : ( ومسجد الأقصى ) أي بيت المقدس ، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة ، وقد جوزه الكوفيون ، واستشهدوا له بقوله تعالى : وما كنت بجانب الغربي والبصريون يؤولونه بإضمار المكان ، أي الذي بجانب المكان الغربي ، ومسجد المكان الأقصى ، ونحو ذلك ، وسمي الأقصى لبعده عن المسجد الحرام في المسافة ، وقيل : في الزمان ، وفيه نظر ، لأنه ثبت في الصحيح أن بينهما أربعين سنة ، وسيأتي في ترجمة إبراهيم الخليل من أحاديث الأنبياء ، وبيان ما فيه من الإشكال والجواب عنه ، وقال : سمي الأقصى لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد ، وقيل : لبعده عن الأقذار والخبث ، وقيل : هو أقصى بالنسبة إلى مسجد الزمخشري المدينة ، لأنه بعيد من مكة ، وبيت المقدس أبعد منه . ولبيت المقدس عدة أسماء تقرب من العشرين منها : إيلياء بالمد والقصر ، وبحذف الياء الأولى ، وعن ابن عباس إدخال الألف واللام على هذا الثالث ، وبيت المقدس بسكون القاف وبفتحها مع التشديد ، والقدس بغير ميم مع ضم القاف ، وسكون الدال ، وبضمها أيضا ، وشلم بالمعجمة وتشديد اللام وبالمهملة ، وشلام بمعجمة ، وسلم بفتح المهملة وكسر اللام الخفيفة ، وأوري سلم بسكون الواو ، وبكسر الراء بعدها تحتانية ساكنة ، قال الأعشى :
وقد طفت للمال آفاقه : دمشق فحمص فأوري سلم
، ومن أسمائه : كورة وبيت أيل ، وصهيون ، ومصروث آخره مثلثة وكورشيلا وبابوس بموحدتين ومعجمة ، وقد تتبع أكثر هذه الأسماء الحسين بن خالويه اللغوي في كتاب " ليس " ، وسيأتي ما يتعلق بمكة والمدينة في كتاب الحج .وفي هذا الحديث فضيلة هذه المساجد ومزيتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء ، ولأن الأول قبلة الناس وإليه حجهم ، والثاني كان قبلة الأمم السالفة ، والثالث أسس على التقوى . واختلف في شد الرحال إلى غيرها لقصد التبرك بها والصلاة فيها ، فقال ، كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتا ، وإلى المواضع الفاضلة : يحرم شد الرحال إلى غيرها عملا بظاهر هذا الحديث ، وأشار الشيخ أبو محمد الجويني القاضي حسين إلى اختياره ، وبه قال عياض وطائفة ، ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار بصرة الغفاري على خروجه إلى أبي هريرة الطور ، وقال له : " لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت " . واستدل بهذا الحديث ، فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه ، ووافقه . والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية أنه لا يحرم ، وأجابوا عن الحديث بأجوبة ؛ منها أن المراد أن أبو هريرة ، فإنه جائز ، وقد وقع في رواية الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه المساجد بخلاف غيرها لأحمد - سيأتي ذكرها - بلفظ : " لا ينبغي للمطي [ ص: 79 ] أن تعمل " . وهو لفظ ظاهر في غير التحريم [1] ومنها أن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة ، فإنه لا يجب الوفاء به قاله ابن بطال ، وقال : اللفظ لفظ الخبر ، ومعناه الإيجاب فيما ينذره الإنسان من الصلاة في البقاع التي يتبرك بها ، أي لا يلزم الوفاء بشيء من ذلك غير هذه المساجد الثلاثة ، ومنها أن المراد حكم المساجد فقط ، وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة ، وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح ، أو قريب ، أو صاحب ، أو طلب علم ، أو تجارة ، أو نزهة فلا يدخل في النهي ، ويؤيده ما روى الخطابي أحمد من طريق ، قال : سمعت شهر بن حوشب أبا سعيد وذكرت عنده الصلاة في الطور ، فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي . لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة غير وشهر حسن الحديث ، وإن كان فيه بعض الضعف . ومنها أن المراد قصدها بالاعتكاف فيما حكاه ، عن بعض السلف ، أنه قال : لا يعتكف في غيرها ، وهو أخص من الذي قبله ، ولم أر عليه دليلا ، واستدل به على أن من نذر إتيان أحد هذه المساجد لزمه ذلك ، وبه قال الخطابي مالك ، وأحمد ، ، والشافعي ، واختاره والبويطي ، وقال أبو إسحاق المروزي أبو حنيفة : لا يجب مطلقا ، وقال في " الأم " : يجب في الشافعي المسجد الحرام لتعلق النسك به بخلاف المسجدين الأخيرين ، وهذا هو المنصور لأصحاب ، وقال الشافعي ابن المنذر : يجب إلى الحرمين ، وأما الأقصى فلا ، واستأنس بحديث جابر : مكة أن أصلي في بيت المقدس ، قال : صل هاهنا . وقال أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إني نذرت إن فتح الله عليك ابن التين : الحجة على أن أعمال المطي إلى الشافعي مسجد المدينة والمسجد الأقصى والصلاة فيهما قربة ، فوجب أن يلزم بالنذر كالمسجد الحرام . انتهى . وفيما يلزم من نذر إتيان هذه المساجد تفصيل وخلاف يطول ذكره ، محله كتب الفروع ، واستدل به على أن من لم يلزمه غيرها ، لأنها لا فضل لبعضها على بعض ، فتكفي صلاته في أي مسجد كان ، قال نذر إتيان غير هذه المساجد الثلاثة لصلاة أو غيرها النووي : لا اختلاف في ذلك إلا ما روي عن الليث أنه قال : يجب الوفاء به ، وعن الحنابلة رواية : يلزمه كفارة يمين ، ولا ينعقد نذره ، وعن المالكية رواية : إن تعلقت به عبادة تختص به كرباط لزم ، وإلا فلا ، وذكر عن محمد بن مسلمة المالكي أنه يلزم في مسجد قباء لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه كل سبت كما سيأتي ، قال الكرماني : وقع في هذه المسألة في عصرنا في البلاد الشامية مناظرات كثيرة ، وصنف فيها رسائل من الطرفين ، قلت : يشير إلى ما رد به الشيخ تقي الدين السبكي وغيره على الشيخ تقي الدين ابن تيمية ، وما انتصر به الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي وغيره لابن تيمية ، وهي مشهورة في بلادنا ، والحاصل أنهم ألزموا ابن تيمية بتحريم شد الرحل [2] إلى ، وأنكرنا [ ص: 80 ] صورة ذلك ، وفي شرح ذلك من الطرفين طول ، وهي من أبشع المسائل المنقولة عن زيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن تيمية ، ومن جملة ما استدل به على دفع ما ادعاه غيره من الإجماع على مشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ما نقل عن مالك ، أنه كره أن يقول : زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد أجاب عنه المحققون من أصحابه بأنه كره اللفظ أدبا لا أصل الزيارة ، فإنها من أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال ، وأن مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع ، والله الهادي إلى الصواب .
قال بعض المحققين : قوله " إلا إلى ثلاثة مساجد " المستثنى منه محذوف ، فإما أن يقدر عاما فيصير : لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة ، أو أخص من ذلك . لا سبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم وغيرها ، فتعين الثاني ، والأولى أن يقدر ما هو أكثر مناسبة ، وهو : لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا إلى الثلاثة ، فيبطل بذلك قول من منع شد الرحال إلى زيارة القبر الشريف وغيره من قبور الصالحين ، والله أعلم . وقال السبكي الكبير : ليس في الأرض بقعة لها فضل لذاتها حتى تشد الرحال إليها غير البلاد الثلاثة ، ومرادي بالفضل المراد به ما شهد الشرع باعتباره ، ورتب عليه حكما شرعيا ، وأما غيرها من البلاد فلا تشد إليها لذاتها ، بل لزيارة أو جهاد أو علم أو نحو ذلك من المندوبات أو المباحات ، قال : وقد التبس ذلك على بعضهم ، فزعم أن شد الرحال إلى الزيارة لمن في غير الثلاثة داخل في المنع ، وهو خطأ لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه ، فمعنى الحديث : لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد ، أو إلى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان إلا إلى الثلاثة المذكورة ، وشد الرحال إلى زيارة أو طلب علم ليس إلى المكان بل إلى من في ذلك المكان ، والله أعلم .