الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      أولئك لهم جنات عدن وجملة: ( إنا ) إلخ معترضة، ونحو هذا من الاعتراض كما قال ابن عطية وغيره قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      إن الخليفة إن الله ألبسه سربال ملك به ترجى الخواتيم



                                                                                                                                                                                                                                      وأنت تعلم أن الاعتراض فيه غير متعين أيضا، وعلى الاحتمال السابق يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة لبيان الأجر، ويحتمل أن تكون خبرا بعد خبر على مذهب من لا يشترط في تعدد الأخبار كونها في معنى خبر واحد [ ص: 270 ] وهو الحق؛ أي: أولئك المنعوتون بالنعوت الجليلة لهم جنات إقامة على أن العدن بمعنى الإقامة والاستقرار، يقال عدن بالمكان إذا قام فيه واستقر، ومنه المعدن؛ لاستقرار الجواهر فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن ابن مسعود: عدن جنة من الجنان وهي بطنانها، ووجه إضافة الجنان إليها بأنها لسعتها كأن كل ناحية منها جنة تجري من تحتهم الأنهار وهم في الغرفات آمنون يحلون فيها من أساور من ذهب من الأولى للابتداء، والثانية للبيان، والجار والمجرور في موضع صفة لأساور، وهذا ما اختاره الزمخشري وغيره.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أبو البقاء في الأولى أن تكون زائدة في المفعول على قول الأخفش، ويدل عليه قوله تعالى: وحلوا أساور وأن تكون بيانية؛ أي: شيئا أو حليا من أساور.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز غيره فيها أن تكون تبعيضية واقعة موقع المفعول كما جوز هو وغيره ذلك في الثانية، وجوز فيها أيضا أن تتعلق ب «يحلون» وهو كما ترى، والأساور جمع أسورة جمع سوار بالكسر والضم، وهو ما في الذراع من الحلي وهو عربي، وقال الراغب: معرب دستواره، وقيل: جمع أسوار جمع سوار وأصله أساوير، فخفف بحذف يائه فهو على القولين جمع الجمع، ولم يجعلوه من أول الأمر جمع سوار لما رأوا أن فعالا لا يجمع على أفاعل في القياس، وعن عمرو بن العلاء أن الواحد أسوار، وأنشد ابن الأنباري:


                                                                                                                                                                                                                                      والله لولا صبية صغار     كأنما وجوههم أقمار
                                                                                                                                                                                                                                      تضمهم من العتيك دار     أخاف أن يصيبهم إقتار
                                                                                                                                                                                                                                      أو لاطم ليس له أسوار     لما رآني ملك جبار


                                                                                                                                                                                                                                      ببابه ما وضح النهار

                                                                                                                                                                                                                                      وفي القاموس: السوار ككتاب وغراب: القلب كالأسوار والجمع أسورة وأساور وأساورة وسور وسؤور وهو موافق لما نقل عن أبي العلاء.

                                                                                                                                                                                                                                      ونقل ذلك أيضا عن قطرب وأبي عبيدة، ونكرت لتعظيم حسنها من الإحاطة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن مردويه عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن رجلا من أهل الجنة اطلع فبدت أساوره لطمس ضوؤه ضوء الشمس كما تطمس ضوء النجوم».

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في البعث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أدنى أهل الجنة حلية عدلت حليته بحلية أهل الدنيا جميعا لكان ما يحليه الله تعالى به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعا».

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال: «إن أهل الجنة يحلون أسورة من ذهب ولؤلؤ وفضة هي أخف عليهم من كل شيء إنما هي نور».

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الضوء».

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ وغيره عن كعب الأحبار قال: «إن لله تعالى ملكا - وفي رواية - في الجنة ملك لو شئت أن أسميه أسميته، يصوغ حلي أهل الجنة من يوم خلق إلى أن تقوم الساعة، ولو أن حليا منها أخرج لرد شعاع الشمس».

                                                                                                                                                                                                                                      والسؤال بأن لبس الرجال الأساور عيب في الدنيا فكيف يحلونها في الآخرة؟ مندفع بأن كونه عيبا إنما هو بين قوم لم يعتادوه لا مطلقا ولا أظنك في مرية من أن الشيء قد يكون عيبا بين قوم ولا يكون عيبا بين آخرين، وليس فيما نحن فيه أمر عقلي يحكم بكونه عيبا في كل وقت وفي كل مكان وبين كل قوم، وإن التزمت أن فيه ذلك فقد حليت [ ص: 271 ] نفسك بحلية الجهل، وخرجت من ربقة العقل، هذا وقرأ أبان عن عاصم: «من أسورة» بحذف ألف وزيادة هاء وهو أحد الجموع لسوار كما سمعت.

                                                                                                                                                                                                                                      ويلبسون ثيابا خضرا لأن الخضرة أحسن الألوان، والنفس تنبسط بها أكثر من غيرها، وروي في أثر أنها تزيد في ضوء البصر، وقيل:

                                                                                                                                                                                                                                      ثلاثة مذهبة للحزن: الماء والخضرة والوجه الحسن، والظاهر أن لباسهم غير منحصر فيما ذكر؛ إذ لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وأخرج ابن أبي حاتم عن سليم بن عامر أن الرجل يكسى في الساعة الواحدة سبعين ثوبا، وأن أدناها مثل شقيق النعمان، وقيل: يحتمل الانحصار، ولهم فيها ما تشتهي الأنفس، لا يأباه لجواز أنهم لا يشتهون ولا تلذ أعينهم سوى ذلك من الألوان، والتنكير لتعريف أنها لا يكاد يوصف حسنها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن أبي حاتم عن كعب قال: لو أن ثوبا من ثياب أهل الجنة نشر اليوم في الدنيا لصعق من ينظر إليه وما حملته أبصارهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبان عن عاصم وابن أبي حماد عن أبي بكر «ويلبسون» بكسر الباء من سندس قال الجواليقي: هو رقيق الديباج بالفارسية فهو معرب، وفي القاموس هو ضرب من البزيون أو ضرب من رقيق الديباج معرب بلا خلاف، وقال الليث: لم يختلف أهل اللغة والمفسرون في أنه معرب، وأنت تعلم أن فيه خلاف الشافعي عليه الرحمة، والقول بأنه ليس من أهل اللغة والمفسرين في النفس منه شيء، وقال شيدلة: هو رقيق الديباج بالهندية، وواحده على ما نقل عن ثعلب سندسة.

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم بعضهم: أن أصله سندي، وكان هذا النوع من الديباج يجلب من السند فأبدلت الياء سينا كما فعل في سادي فقيل: سادس، وهو كلام لا يروج إلا على سندي أو هندي. ويحكى أن جماعة من أهل الهند من بلد يقال له بروج بالجيم الفارسية، وكانوا يتكلمون بلغة تسمى سنسكريت جاءوا إلى الإسكندر الثاني بهدية من جملتها هذا الديباج ولم يكن رآه فقال: ما هذا؟ فقالوا: سندون بالنون في آخره فغيرته الروم إلى سندوس، ثم العرب إلى سندس فهو معرب قطعا من ذلك اللفظ الذي أطلقته أولئك الجماعة عليه، لكن لا جرم في أنه اسم له في الأصل بلغتهم أو اسم للبلدة المجلوب هو منها، أطلق عليه كما في أسماء كثير من الأمتعة اليوم. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

                                                                                                                                                                                                                                      وإستبرق أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة وعكرمة أنه غليظ الديباج، وقال ابن بحر: هو ديباج منسوج بذهب، وفي القاموس: هو الديباج الغليظ أو ديباج يعمل بالذهب أو ثياب حرير صفاق نحو الديباج أو قدة حمراء كأنها قطع الأوتار اه، والذي عليه الأكثرون من المفسرين واللغويين الأول، وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك معرب استبره وهي كلمة عجمية ومعناها الغليظ، والمشهور أنه يقال للغليظ بالفارسية استبر بلا هاء، وقال ابن قتيبة: هو رومي عرب وأصله استبره فأبدلوا الهاء قافا، ووقع في شعر المرقش قال:


                                                                                                                                                                                                                                      تراهن يلبسن المشاعر مرة     وإستبرق الديباج طورا لباسها



                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن دريد: هو سرياني عرب وذكر من أصله ما ذكروا، وقيل: أصله استفره بحرف بعد التاء بين الفاء والباء الموحدة، وادعى بعضهم أن الإستبرق الديباج الغليظ الحسن في اللغة العربية والفارسية ففيه توافق اللغتين، ونقل عن الأزهري أنه استصوب هذا، ويجمع على أباريق ويصغر كما في القاموس وغيره على أبيرق، وقرأ ابن محيصن «واستبرق» بوصل الهمزة وفتح القاف حيث وقع؛ جعله كما يقتضيه ظاهر كلام [ ص: 272 ] ابن خالويه فعلا ماضيا على وزن استفعل من البريق إلا أن استفعل فيه موافق للمجرد الذي هو برق، وظاهر كلام الأهوازي في الإقناع أنه وحده قرأ كذلك وجعله اسما ممنوعا من الصرف ولم يجعله فعلا ماضيا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال صاحب اللوامح: قرأ ابن محيصن: «واستبرق» بوصل الهمزة في جميع القرآن مع التنوين فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفا على غير قياس، ويجوز أنه جعله كلمة عربية من برق الثوب يبرق بريقا إذا تلألأ بجدته ونضارته فيكون وزنه استفعل من ذلك، فلما سمي به عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة ومعاملة المتمكن من الأسماء في الصرف والتنوين، وأكثر التفاسير على أنه عربي وليس بمستعرب انتهى، ولا يخفى أنه مخالف للنقلين السابقين، ويمكن أن يقال:

                                                                                                                                                                                                                                      إن لابن محيصن قراءتين فيه الصرف والمنع منه فنقل بعض قراءة وبعض آخر أخرى، لكن ذكر ابن جني أن قراءة فتح القاف سهو أو كالسهو، قال أبو حيان: وإنما قال ذلك لأن جعله اسما ومنعه من الصرف لا يجوز أنه غير علم فتكون سهوا، وقد أمكن جعله فعلا ماضيا فلا تكون سهوا. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الجمع بين السندس والإستبرق إشعار ما بأن لأولئك القوم في الجنة ما يشتهون، ونكرا لتعظيم شأنهما وكيف لا وهما وراء ما يشاهد من سندس الدنيا وإستبرقها بل وما يتخيل من ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج البيهقي عن أبي الخير مرثد بن عبد الله قال: في الجنة شجرة تنبت السندس، منه تكون ثياب أهل الجنة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطيالسي والبخاري في التاريخ والنسائي وغيرهم عن ابن عمر قال: قال رجل: يا رسول الله، أخبرنا عن ثياب أهل الجنة، أخلقا تخلق أم نسجا تنسج؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل يتشقق عنها ثمر الجنة.

                                                                                                                                                                                                                                      وظاهره أنها من سندس كانت أو من إستبرق كذلك، وقدمت التحلية على اللباس لأن الحلي في النفس أعظم، وإلى القلب أحب، وفي القيمة أغلى، وفي العين أحلى، وبنى فعله للمفعول إشعارا بأنهم لا يتعاطون ذلك بأنفسهم، وإنما يفعله الخدم كما قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      غرائر في كن وصون ونعمة     يحلين ياقوتا وشذرا مفقرا



                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك سائر الملوك في الدنيا يلبسهم التيجان ونحوها من العلامات المرصعة بالجواهر خدمهم، وأسند اللبس إليهم لأن الإنسان يتعاطى ذلك بنفسه خصوصا إذا كان فيه ستر العورة، وقيل: بنى الأول للمفعول والثاني للفاعل إشارة إلى أن التحلية تفضل من الله تعالى واللبس استحقاقهم، وتعقب بأن فيه نزغة اعتزالية ويدفع بالعناية متكئين فيها على الأرائك جمع أريكة كما قال غير واحد وهو السرير في الحجلة، فإن لم يكن فيها فلا يسمى أريكة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ذلك البيهقي عن ابن عباس، وقال الراغب: الأريكة حجلة على سرير وتسميتها بذلك إما لكونها في الأرض متخذة من أراك وهو شجر معروف أو لكونها مكانا للإقامة من قولهم أرك بالمكان أروكا، وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك ثم تجوز به في غيره من الإقامات، وروي تفسيرها بذلك عن عكرمة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج: الأرائك الفرش في الحجال، والظاهر أنها على سائر الأقوال عربية، وحكى ابن الجوزي في فنون الأفنان أنها السرر بالحبشية، وأيا ما كان فالكلام على ما قاله بعض المحققين كناية عن تنعمهم وترفههم؛ فإن الاتكاء على الأرائك شأن المتنعمين المترفهين، والآثار ناطقة بأنهم يتكئون ويتنعمون.

                                                                                                                                                                                                                                      فقد أخرج [ ص: 273 ] ابن أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول منه ولا يمله يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه».

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن عباس أن على الأرائك فرشا منضودة في السماء مقدار فرسخ.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن محيصن: «علرائك» بنقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وإدغام لام على فيها فيحذف ألف على لتوهم سكون لام التعريف، ومثله قول الشاعر:

                                                                                                                                                                                                                                      فما أصبحت عارض نفسي برية،

                                                                                                                                                                                                                                      يريد على الأرض

                                                                                                                                                                                                                                      نعم الثواب ذلك الذي وعدوا به من الجنة ونعيمها وحسنت أي الأرائك أو الجنات مرتفقا متكأ، وقد تقدم آنفا الكلام فيه

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية