الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ ليس من التقليد قبول قول القائف ونحوه ]

الوجه الستون : قولكم : " وقد جاءت الشريعة بقبول قول القائف والخارص والقاسم والمقوم والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد ، وذلك تقليد محض " أتعنون به أنه تقليد لبعض العلماء في قبول أقوالهم أو تقليد لهم فيما يخبرون به ؟ فإن عنيتم الأول فهو باطل ، وإن عنيتم الثاني فليس فيه ما تستروحون إليه من التقليد الذي قام الدليل على بطلانه ، وقبول قول هؤلاء من باب قبول خبر المخبر والشاهد ، لا من باب قبول الفتيا في الدين من غير قيام دليل على صحتها ، بل لمجرد إحسان الظن بقائلها مع تجويز الخطأ عليه ، فأين قبول الإخبار والشهادات والأقارير إلى التقليد في الفتوى ؟ ، والمخبر بهذه الأمور يخبر عن أمر حسي طريق العلم به إدراكه بالحواس والمشاعر الظاهرة والباطنة ، وقد أمر الله سبحانه بقبول خبر المخبر به إذا كان ظاهر الصدق والعدالة . وطرد هذا ، ونظيره قبول خبر المخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه قال أو فعل ، وقبول خبر المخبر عمن أخبر عنه بذلك ، وهلم جرا ; فهذا حق لا ينازع فيه أحد .

وأما تقليد الرجل فيما يخبر به عن ظنه فليس فيه أكثر من العلم بأن ذلك ظنه واجتهاده ; فتقليدنا له في ذلك بمنزلة تقليدنا له فيما يخبر به عن رؤيته وسماعه وإدراكه ، فأين في هذا ما يوجب علينا أو يسوغ لنا أن نفتي بذلك أو نحكم به وندين الله به ، ونقول : هذا هو الحق وما خالفه باطل ، ونترك له نصوص القرآن والسنة وآثار الصحابة وأقوال من عداه من جميع أهل العلم ؟

ومن هذا الباب تقليد الأعمى في القبلة ودخول الوقت لغيره ، وقد كان ابن أم مكتوم لا يؤذن حتى يقلد غيره في طلوع الفجر ، ويقال : أصبحت أصبحت ، وكذلك تقليد الناس للمؤذن في دخول الوقت ، وتقليد من في المطمورة لمن يعلمه بأوقات الصلاة والفطر [ ص: 181 ] والصوم وأمثال ذلك ، ومن ذلك التقليد في قبول الترجمة في الرسالة والتعريف والتعديل والجرح .

كل هذا من باب الأخبار التي أمر الله بقبول المخبر بها إذا كان عدلا صادقا ، وقد أجمع الناس على قبول خبر الواحد في الهدية وإدخال الزوجة على زوجها ، وقبول خبر المرأة ذمية كانت أو مسلمة في انقطاع دم حيضها لوقته وجواز وطئها وإنكاحها بذلك ، وليس هذا تقليدا في الفتيا والحكم ، وإذا كان تقليدا لها فإن الله سبحانه شرع لنا أن نقبل قولها ونقلدها فيه ، ولم يشرع لنا أن نتلقى أحكامه عن غير رسوله فضلا عن أن نترك سنة رسوله لقول واحد من أهل العلم ونقدم قوله على قول من عداه من الأمة .

الوجه الحادي والستون : قولكم : " وأجمعوا على جواز شراء اللحمان والأطعمة والثياب وغيرها من غير سؤال عن أسباب حلها اكتفاء بتقليد أربابها " جوابه أن هذا ليس تقليدا في حكم من أحكام الله ورسوله من غير دليل ، بل هو اكتفاء بقبول قول الذابح والبائع ، وهو اقتداء واتباع لأمر الله ورسوله ، حتى لو كان الذابح والبائع يهوديا أو نصرانيا أو فاجرا اكتفينا بقوله في ذلك ، ولم نسأله عن أسباب الحل ، كما { قالت عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله إن ناسا يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لا ، فقال : سموا أنتم وكلوا } فهل يسوغ لكم تقليد الكفار والفساق في الدين كما تقلدونهم في الذبائح والأطعمة ؟ فدعوا هذه الاحتجاجات الباردة وادخلوا معنا في الأدلة الفارقة بين الحق والباطل ; لنعقد معكم عقد الصلح اللازم على تحكيم كتاب الله وسنة رسوله والتحاكم إليهما وترك أقوال الرجال لهما ، وأن ندور مع الحق حيث كان ، ولا نتحيز إلى شخص معين غير الرسول : نقبل قوله كله ، ونرد قول من خالفه كله ، وإلا فاشهدوا بأنا أول منكر لهذه الطريقة وراغب عنها داع إلى خلافها ، والله المستعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية