الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 196 ] أفبعذابنا يستعجلون أفرايت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون .

نشأ عن قوله : فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون تقدير جواب عن تكرر سؤالهم : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ، حيث جعلوا تأخر حصول العذاب دليلا على انتفاء وقوعه ، فأعقب ذلك بقوله : أفبعذابنا يستعجلون . فالفاء في قوله : أفبعذابنا يستعجلون تفيد تعقيب الاستفهام عقب تكرر قولهم : ( متى هذا الوعد ) ونحوه . والاستفهام مستعمل في التعجيب من غرورهم . والمعنى : أيستعجلون بعذابنا فما تأخيره إلا تمتيع لهم . وكانوا يستهزئون فيقولون : متى هذا الوعد ، ويستعجلون بالعذاب وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب . قال مقاتل : قال المشركون للنبيء صلى الله عليه وسلم : يا محمد إلى متى تعدنا بالعذاب ولا تأتي به ، فنزلت أفبعذابنا يستعجلون .

وتقديم ( بعذابنا ) للرعاية على الفاصلة وللاهتمام به في مقام الإنذار ، أي : ليس شأن مثله أن يستعجل لفظاعته .

ولما كان استعجالهم بالعذاب مقتضيا أنهم في مهلة منه ومتعة بالسلامة ، وأن ذلك يغرهم بأنهم في منجاة من الوعيد الذي جاءهم على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم جابههم بجملة أفرأيت إن متعناهم سنين .

والاستفهام في ( أفرأيت إن متعناهم ) للتقرير . و ( ما ) في قوله ( ما أغنى عنهم ) استفهامية وهو استفهام مستعمل في الإنكار ، أي : لم يغن عنهم شيئا . والرؤية في ( أفرأيت ) قلبية ، أي : أفعلمت . والخطاب لغير معين يعم كل مخاطب حتى المجرمين .

وجملة ( إن متعناهم سنين ) معترضة وجواب الشرط محذوف دل عليه ما سد مسد مفعولي ( رأيت ) . و ( ثم جاءهم ) معطوف على جملة الشرط المعترضة ، و ( ثم ) فيه للترتيب والمهلة ، أي : جاءهم بعد سنين . وفيه رمز إلى أن [ ص: 197 ] العذاب جائيهم وحال بهم لا محالة . و ( ما كانوا يوعدون ) موصول وصلته والعائد محذوف تقديره : يوعدونه .

وجملة ( ما أغنى عنهم ) سادة مسد مفعولي ( رأيت ) لأنه معلق عن العمل بسبب الاستفهام بعده . و ( ما كانوا يمتعون ) موصول وصلته . والعائد محذوف تقديره : يمتعونه .

والمعنى : أعلمت أن تمتيعهم بالسلامة وتأخير العذاب إن فرض امتداده سنين عديدة غير مغن عنهم شيئا إن جاءهم العذاب بعد ذلك . وهذا كقوله تعالى : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ، وذلك أن الأمور بالخواتيم . في تفسير القرطبي : روى ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ثم يبكي ويقول :


نهارك يا مغرور سهو وغفـلة وليلك نوم والـردى لـك لازم

    فلا أنت في الإيقاظ يقظان حازم
ولا أنت في النوام ناج فسالـم

    تسر بما يفنى وتفرح بالمـنـى
كما سر باللذات في النوم حالم

    وتسعى إلى ما سوف تكره غبه
كذلك في الدنيا تعيش البـهـائم



ولم أقف على صاحب هذه الأبيات . قال ابن عطية : ولأبي جعفر المنصور قصة في هذه الآية . ولعل ما روي عن عمر بن عبد العزيز روي مثيله عن المنصور .

التالي السابق


الخدمات العلمية