الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون

                                                                                                                                                                                                                                      أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لهم هذا القول إلزاما لهم وقطعا لشبهتهم; أي : أتعبدون من دون الله متجاوزين إياه ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا ؟ بل هو عبد مأمور ، وما جرى على يده من النفع ، أو دفع من الضر فهو بإقدار الله له وتمكينه منه ، وأما هو فهو يعجز عن أن يملك لنفسه شيئا من ذلك فضلا عن أن يملكه لغيره ، ومن كان لا ينفع ولا يضر فكيف تتخذونه إلها وتعبدونه ، وأي سبب يقتضي ذلك ؟ والمراد هنا المسيح عليه السلام ، وقدم سبحانه الضر على النفع ; لأن دفع المفاسد أهم من جلب المصالح ( والله هو السميع العليم ) أي كيف تعبدون ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا ، والحال أن الله هو السميع العليم ، ومن كان كذلك فهو القادر على الضر والنفع لإحاطته بكل مسموع ومعلوم ، ومن جملة ذلك مضاركم ومنافعكم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ( تغلوا في دينكم ) لما أبطل سبحانه جميع ما تعلقوا به من الشبه الباطلة نهاهم عن الغلو في دينهم وهو المجاوزة للحد كإثبات الإلهية لعيسى ، كما يقوله النصارى ، أو حطه عن مرتبته العلية كما يقوله اليهود فإن كل ذلك من الغلو المذموم وسلوك طريقة الإفراط أو التفريط واختيارهما على طريق الصواب .

                                                                                                                                                                                                                                      ( وغير ) منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف ; أي : غلوا غير غلو الحق ، وأما الغلو في الحق بإبلاغ كلية الجهد في البحث عنه واستخراج حقائقه فليس بمذموم ، وقيل إن النصب على الاستثناء المتصل ، وقيل على المنقطع ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وهم أسلاف أهل الكتاب من طائفتي اليهود والنصارى ; أي : قبل البعثة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم ( وأضلوا كثيرا ) من الناس وضلوا عن سواء السبيل أي عن قصدهم طريق محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة ، والمراد أن أسلافهم ضلوا من قبل البعثة وأضلوا كثيرا من الناس إذ ذاك ، وضلوا من بعد البعثة ، إما بأنفسهم ، أو جعل ضلال من أضلوه ضلالا لهم لكونهم سنوا لهم ذلك ونهجوه لهم ، وقيل : المراد بالأول : كفرهم بما يقتضيه العقل ، وبالثاني : كفرهم بما يقتضيه الشرع . قوله : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل أي لعنهم الله سبحانه على لسان داود وعيسى ابن مريم أي في الزبور والإنجيل على لسان داود وعيسى بما فعلوه من المعاصي كاعتدائهم في السبت وكفرهم بعيسى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ذلك بما عصوا جملة مستأنفة جواب عن سؤال مقدر ، والإشارة بذلك إلى اللعن ; أي : ذلك اللعن بسبب المعصية والاعتداء لا بسبب آخر . ثم بين سبحانه المعصية والاعتداء بقوله : كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه فأسند الفعل إليهم لكون فاعله من جملتهم وإن لم يفعلوه جميعا .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : أنهم كانوا لا ينهون العاصي عن معاودة معصية قد فعلها ، أو تهيأ لفعلها ويحتمل أن [ ص: 388 ] يكون وصفهم بأنهم قد فعلوا المنكر باعتبار حالة النزول لا حالة ترك الإنكار ، وبيان العصيان والاعتداء بترك التناهي عن المنكر لأن من أخل بواجب النهي عن المنكر فقد عصى الله سبحانه وتعدى حدوده . والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم القواعد الإسلامية وأجل الفرائض الشرعية ، ولهذا كان تاركه شريكا لفاعل المعصية ومستحقا لغضب الله وانتقامه كما وقع لأهل السبت ، فإن الله سبحانه مسخ من لم يشاركهم في الفعل ولكن ترك الإنكار عليهم ، كما مسخ المعتدين فصاروا جميعا قردة وخنازير إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد [ ق : 37 ] ثم إن الله سبحانه قال مقبحا لعدم التناهي عن المنكر لبئس ما كانوا يفعلون أي من تركهم لإنكار ما يجب عليهم إنكاره .

                                                                                                                                                                                                                                      ( ترى كثيرا منهم ) أي من اليهود مثل كعب بن الأشرف وأصحابه يتولون الذين كفروا أي المشركين وليسوا على دينهم لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أي سولت وزينت ، أو ما قدموه لأنفسهم ليردوا عليه يوم القيامة ، والمخصوص بالذم هو ( أن سخط الله عليهم ) أي : موجب سخط الله عليهم على حذف مضاف أو هو سخط الله عليهم على حذف مبتدأ ، وقيل هو ; أي : أن سخط الله عليهم بدل من ما . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي أي : نبيهم ( وما أنزل إليه ) من الكتاب ما اتخذوهم أي : المشركين أولياء ; لأن الله سبحانه ورسوله المرسل إليهم وكتابه المنزل عليهم قد نهوهم عن ذلك ولكن كثيرا منهم فاسقون أي خارجون عن ولاية الله وعن الإيمان به وبرسوله وبكتابه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : لا تغلوا في دينكم يقول : لا تبتدعوا . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : كانوا مما غلوا فيه أن دعوا لله صاحبة وولدا . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : وضلوا عن سواء السبيل قال : يهود . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول له : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود إلى قوله : فاسقون ثم قال : كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روي هذا الحديث من طرق كثيرة ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا فلا نطول بذكرها . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود يعني في الزبور وعيسى ابن مريم يعني في الإنجيل . وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي مالك الغفاري في الآية قال : لعنوا على لسان داود فجعلوا قردة ، وعلى لسان عيسى فجعلوا خنازير . وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة نحوه . وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أبي عبيدة بن الجراح مرفوعا : قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار ، فقام مائة واثنا عشر رجلا من عبادهم فأمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا في آخر النهار ، فهم الذين ذكر الله لعن الذين كفروا من بني إسرائيل الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : لبئس ما قدمت لهم أنفسهم قال : ما أمرتهم . وأخرج ابن أبي حاتم والخرائطي في مساوي الأخلاق وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا معشر المسلمين إياكم والزنا ، فإن فيه ست خصال : ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة ، فأما التي في الدنيا : فذهاب البهاء ، ودوام الفقر ، وقصر العمر ، وأما التي في الآخرة : فسخط الله ، وسوء الحساب ، والخلود في النار ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير في تفسيره : هذا الحديث ضعيف على كل حال . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء قال : المنافقون .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية