الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين .

                                                                                                                                                                                                                                      ألم تر : تقرير؛ وتعجيب؛ كما سبق؛ قطع عنه للإيذان باستقلاله في التعجب؛ مع أن له مزيد ارتباط بما وسط بينهما من الأمر بالقتال؛ إلى الملإ من بني إسرائيل ؛ الملأ من القوم: وجوههم؛ وأشرافهم؛ وهو اسم للجماعة؛ لا واحد له من لفظه؛ كـ "الرهط"؛ و"القوم"؛ سموا بذلك لما أنهم يملؤون العيون مهابة؛ والمجالس بهاء؛ أو لأنهم مليئون بما يبتغى منهم؛ و"من" تبعيضية؛ و"من" في قوله (تعالى): من بعد موسى : ابتدائية؛ وعاملها مقدر؛ وقع حالا من "الملإ"؛ أي: كائنين بعض بني إسرائيل؛ من بعد وفاة موسى؛ ولا ضير في اتحاد الحرفين لفظا؛ عند اختلافهما معنى؛ إذ قالوا : منصوب بمضمر يستدعيه المقام؛ أي: ألم تر إلى قصة الملإ؛ أو حديثهم؛ حين قالوا: لنبي لهم ؛ هو يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف - عليهما السلام -؛ وقيل: شمعون بن صعبة بن علقمة؛ من ولد لاوي بن يعقوب - عليهما السلام -؛ وقيل: أشمويل بن بال بن علقمة؛ وهو بالعبرانية "إسماعيل"؛ قال مقاتل: هو من نسل هارون - عليه السلام -؛ وقال مجاهد: أشمويل بن هلقايا؛ ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ؛ أي: أنهض للقتال معنا أميرا؛ يصدر في تدبير أمر الحرب عن رأيه؛ وقرئ: "نقاتل"؛ بالرفع؛ على أنه حال مقدرة؛ أي: ابعثه لنا مقدرين القتال؛ أو استئناف مبني على السؤال؛ وقرئ: "يقاتل"؛ بالياء؛ مجزوما؛ ومرفوعا؛ على الجواب للأمر؛ والوصف لـ "ملكا"؛ قال : استئناف؛ وقع جوابا عن سؤال ينساق إليه الذهن؛ كأنه قيل: فماذا قال لهم النبي حينئذ؟ فقيل: قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ؛ فصل بين "عسى"؛ وخبره بالشرط؛ للاعتناء به؛ أي: هل قاربتم ألا تقاتلوا؛ كما أتوقعه منكم؟ والمراد تقرير أن المتوقع كائن؛ وإنما لم يذكر في معرض الشرط ما التمسوه؛ بأن قيل: هل عسيتم إن بعثت لكم ملكا.. إلخ.. مع أنه أظهر تعلقا بكلامهم؛ بل ذكر كتابة القتال عليهم؛ للمبالغة في بيان تخلفهم عنه؛ فإنهم إذا لم يقاتلوا عند فرضية القتال عليهم بإيجاب الله (تعالى) فلأن لا يقاتلوا عند عدم فرضيته أولى؛ ولأن إيراد ما ذكروه ربما يوهم أن سبب تخلفهم عن القتال هو المبعوث؛ لا نفس القتال؛ وقرئ: "عسيتم"؛ بكسر السين؛ وهي ضعيفة؛ قالوا : استئناف؛ كما سبق؛ وما لنا ألا نقاتل ؛ أي: أي سبب لنا في ألا نقاتل؟ في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ؛ أي: والحال أنه قد عرض لنا ما يوجب القتال إيجابا قويا؛ من الإخراج عن الديار؛ والأوطان؛ والاغتراب من الأهل؛ والأولاد؛ وإفراد الأبناء بالذكر لمزيد تقوية أسباب القتال؛ وذلك أن جالوت؛ رأس العمالقة؛ وملكهم؛ وهو جبار من أولاد عمليق بن عاد؛ كان هو ومن معه؛ من العمالقة؛ يسكنون ساحل بحر الروم؛ بين مصر؛ وفلسطين؛ وظهروا على بني إسرائيل؛ وأخذوا ديارهم؛ وسبوا أولادهم؛ وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة [ ص: 240 ] وأربعين نفسا؛ وضربوا عليهم الجزية؛ وأخذوا توراتهم؛ فلما كتب عليهم القتال ؛ بعد سؤال النبي - عليه السلام - ذلك؛ وبعث الملك؛ تولوا ؛ أي: أعرضوا؛ وتخلفوا؛ لكن لا في ابتداء الأمر؛ بل بعد مشاهدة كثرة العدو؛ وشوكته؛ كما سيجيء تفصيله؛ وإنما ذكر ههنا مآل أمرهم إجمالا؛ إظهارا لما بين قولهم؛ وفعلهم من التنافي؛ والتباين؛ إلا قليلا منهم ؛ وهم الذين اكتفوا بالغرفة من النهر؛ وجاوزوه؛ وهم ثلثمائة وثلاثة عشر؛ بعدد أهل بدر؛ والله عليم بالظالمين : وعيد لهم على ظلمهم بالتولي عن القتال؛ وترك الجهاد؛ وتنافي أقوالهم؛ وأفعالهم؛ والجملة اعتراض تذييلي.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية