الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم والصابوني في المائتين عن ابن عباس في قوله : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا الآية، قال : هذا مثل ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون، ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله العز كما سلب صاحب النار ضوءه وتركهم في ظلمات يقول في عذاب صم بكم عمي لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه أو كصيب هو المطر، ضرب مثله في القرآن فيه ظلمات يقول : ابتلاء ورعد وبرق تخويف يكاد البرق يخطف أبصارهم يقول : يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين كلما أضاء لهم مشوا فيه يقول : كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزا اطمأنوا فإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله ومن الناس من يعبد الله على حرف الآية [ الحج : 11] .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 171 ] وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا الآية، قال : إن ناسا دخلوا في الإسلام عند مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فأضاءت ما حوله من قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقي، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى . فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك، فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشر، فبينا هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر فهم صم بكم، فهم الخرس، فهم لا يرجعون إلى الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله : أو كصيب الآية، قال : كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، فيه رعد شديد وصواعق وبرق فجعلا كلما أصابهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصرا، قاما مكانهما لا يمشيان فجعلا يقولان : ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا فنضع أيدينا في يده .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 172 ] فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده، وحسن إسلامهما، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء، أو يذكروا بشيء فيقتلوا، كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما، وإذا أضاء لهم مشوا فيه، فإذا كثرت أموالهم وولدهم وأصابوا غنيمة وفتحا مشوا فيه، وقالوا : إن دين محمد حينئذ صدق : واستقاموا عليه، كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهما البرق وإذا أظلم عليهم قاموا فكانوا إذا هلكت أموالهم وولدهم وأصابهم البلاء قالوا : هذا من أجل دين محمد . وارتدوا كفارا كما كان ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن السدي ، مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : كمثل الذي استوقد نارا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 173 ] قال : ضربه الله مثلا للمنافق، وقوله ذهب الله بنورهم قال : أما النور، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم، وفي قوله : أو كصيب الآية، قال الصيب المطر، وهو مثل المنافق في ضوء ما تكلم بما معه من كتاب الله، وعمل مراءاة للناس، فإذا خلا وحده عمل بغيره فهو في ظلمة ما أقام على ذلك، وأما الظلمات فالضلالة وأما البرق فالإيمان، وهم أهل الكتاب وإذا أظلم عليهم فهو رجل يأخذ بطرف الحق، لا يستطيع أن يجاوزه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : مثلهم الآية، قال : ضرب الله مثلا للمنافقين يبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فتركهم في ظلمات الكفر، لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حق صم بكم عمي عن الخير فهم لا يرجعون إلى هدى ولا إلى خير، وفي قوله : أو كصيب الآية، يقول : هم من ظلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم، على مثل ما وصف من [ ص: 174 ] الذي هم في ظلمة الصيب، فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين منزل ذلك بهم من النقمة يكاد البرق يخطف أبصارهم أي لشدة ضوء الحق كلما أضاء لهم مشوا فيه أي يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا أي متحيرين ولو شاء الله لذهب بسمعهم أي لما تركوا تركوا من الحق بعد معرفته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد في قوله : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا قال : أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى، وذهاب نورهم إقبالهم إلى الكافرين والضلالة، وإضاءة البرق وإظلامه على نحو المثل والله محيط بالكافرين قال : جامعهم في جهنم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة في قوله : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا قال : هذا مثل ضربه الله للمنافق، إن المنافق تكلم بـ " لا إله إلا الله " فناكح بها المسلمين، ووارث بها المسلمين وعاد بها [ ص: 175 ] المسلمين وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في عمله فسلبها المنافق عند الموت فترك في ظلمات وعمى، يتسكع فيها، كما كان أعمى في الدنيا عن حق الله وطاعته صم عن الحق فلا يسمعونه بكم عن الحق فلا ينطقون به عمي عن الحق فلا يبصرونه فهم لا يرجعون عن ضلالتهم، ولا يتوبون، ولا يتذكرون أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت قال : هذا مثل ضربه الله للمنافق لجنبه، لا يسمع صوتا إلا ظن أنه قد أتي، ولا يسمع صياحا إلا ظن أنه ميت، أجبن قوم وأخذله للحق، وقال الله في آية أخرى يحسبون كل صيحة عليهم [ المنافقون : 4] . يكاد البرق يخطف أبصارهم الآية، قال : البرق هو الإسلام، والظلمة هو البلاء والفتنة، فإذا رأى المنافق من الإسلام طمأنينة وعافية ورخاء وسلوة من عيش قالوا : إنا معكم ومنكم . وإذا رأى من الإسلام شدة وبلاء تحقحق عند الشدة [ ص: 176 ] فلا يصبر لبلائها، ولم يحتسب أجرها ولم يرج عاقبتها، إنما هو صاحب دنيا، لها يغضب ولها يرضى وهو كما نعته الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج وكيع، وعبد بن حميد ، وأبو يعلى في " مسنده "، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في " العظمة " من طرق عن ابن عباس في قوله : أو كصيب من السماء قال : المطر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن مجاهد والربيع وعطاء، مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطبراني في " الأوسط " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنما الصيب من ههنا، وأشار بيده إلى السماء .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : يكاد البرق يخطف أبصارهم قال : يلتمع أبصارهم ولما يخطف، وكل شيء في القرآن : كاد وأكاد وكادوا، فإنه لا يكون أبدا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 177 ] وأخرج وكيع عن المبارك بن فضالة قال : سمعت الحسين يقرؤها " يكاد البرق يخطف أبصارهم " .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية