الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ( 116 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فهلا كان من القرون الذين قصصت عليك نبأهم في هذه السورة ، الذين أهلكتهم بمعصيتهم إياي ، وكفرهم برسلي [ ص: 527 ] من قبلكم . ( أولو بقية ) ، يقول : ذو بقية من الفهم والعقل ، يعتبرون مواعظ الله ويتدبرون حججه ، فيعرفون ما لهم في الإيمان بالله ، وعليهم في الكفر به ( ينهون عن الفساد في الأرض ) ، يقول : ينهون أهل المعاصي عن معاصيهم ، وأهل الكفر بالله عن كفرهم به ، في أرضه ( إلا قليلا ممن أنجينا منهم ) ، يقول : لم يكن من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض ، إلا يسيرا ، فإنهم كانوا ينهون عن الفساد في الأرض ، فنجاهم الله من عذابه ، حين أخذ من كان مقيما على الكفر بالله عذابه وهم أتباع الأنبياء والرسل .

ونصب "قليلا" لأن قوله : ( إلا قليلا ) استثناء منقطع مما قبله ، كما قال : ( إلا قوم يونس لما آمنوا ) ، [ سورة يونس : 98 ] . وقد بينا ذلك في غير موضع ، بما أغنى عن إعادته .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

18690 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : اعتذر فقال : ( فلولا كان من القرون من قبلكم ) ، حتى بلغ : ( إلا قليلا ممن أنجينا منهم ) ، فإذا هم الذين نجوا حين نزل عذاب الله . وقرأ : ( واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه ) .

18691 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ) ، إلى قوله : ( إلا قليلا ممن أنجينا منهم ) ، قال : يستقلهم الله من كل قوم . [ ص: 528 ]

18692 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن داود قال : سألني بلال عن قول الحسن في القدر ، قال : فقال : سمعت الحسن يقول : ( قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ) ، قال : بعث الله هودا إلى عاد ، فنجى الله هودا والذين آمنوا معه وهلك المتمتعون . وبعث الله صالحا إلى ثمود ، فنجى الله صالحا وهلك المتمتعون . فجعلت أستقريه الأمم ، فقال : ما أراه إلا كان حسن القول في القدر .

18693 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم ) ، أي : لم يكن من قبلكم من ينهى عن الفساد في الأرض ( إلا قليلا ممن أنجينا منهم ) .

وقوله : ( واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه ) ، يقول تعالى ذكره : واتبع الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بالله ما أترفوا فيه .

ذكر من قال ذلك :

18694 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : ( واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه ) ، قال : ما أنظروا فيه .

18695 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه ) ، من دنياهم . [ ص: 529 ]

وكأن هؤلاء وجهوا تأويل الكلام : واتبع الذين ظلموا الشيء الذي أنظرهم فيه ربهم من نعيم الدنيا ولذاتها ، إيثارا له على عمل الآخرة وما ينجيهم من عذاب الله .

وقال آخرون : معنى ذلك : واتبع الذين ظلموا ما تجبروا فيه من الملك ، وعتوا عن أمر الله .

ذكر من قال ذلك :

18696 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه ) ، قال : في ملكهم وتجبرهم ، وتركوا الحق .

18697 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه ، إلا أنه قال : وتركهم الحق .

18698 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثل حديث محمد بن عمرو سواء .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر تعالى ذكره : أن الذين ظلموا أنفسهم من كل أمة سلفت فكفروا بالله ، اتبعوا ما أنظروا فيه من لذات الدنيا ، فاستكبروا وكفروا بالله ، واتبعوا ما أنظروا فيه من لذات الدنيا ، فاستكبروا عن أمر الله وتجبروا وصدوا عن سبيله .

وذلك أن المترف في كلام العرب : هو المنعم الذي قد غذي باللذات ، ومنه قول الراجز : [ ص: 530 ]

نهدي رءوس المترفين الصداد إلى أمير المؤمنين الممتاد

وقوله : ( وكانوا مجرمين ) ، يقول : وكانوا مكتسبي الكفر بالله .

التالي السابق


الخدمات العلمية