الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين قوله : قل إني نهيت أمره الله سبحانه أن يعود إلى مخاطبة الكفار ويخبرهم بأنه نهي عن عبادة ما يدعونه ويعبدونه من دون الله : أي نهاه الله عن ذلك وصرفه وزجره ، ثم أمره سبحانه بأن يقول لهم : لا أتبع أهواءكم أي : لا أسلك المسلك الذي سلكتموه في دينكم من اتباع الأهواء [ ص: 423 ] والمشي على ما توجبه المقاصد الفاسدة التي يتسبب عنها الوقوع في الضلال .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : قد ضللت إذا أي اتبعت أهواءكم فيما طلبتموه من عبادة معبوداتكم وطرد من أردتم طرده وما أنا من المهتدين إن فعلت ذلك ، وهذه الجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها ، والمجيء بها اسمية عقب تلك الفعلية للدلالة على الدوام والثبات ، وقرئ " ضللت " بفتح اللام وكسرها وهما لغتان .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو عمرو : " ضللت " بكسر اللام لغة تميم ، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة بن مصرف ، والأولى هي الأصح والأفصح ، لأنها لغة أهل الحجاز ، وهي قراءة الجمهور .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الجوهري : والضلال والضلالة ضد الرشاد ، وقد ضللت أضل .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الله تعالى : قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي [ سبأ : 50 ] قال فهذه : يعني المفتوحة لغة نجد وهي الفصيحة ، وأهل العالية يقول : ضللت بالكسر أضل انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : قل إني على بينة من ربي البينة : الحجة والبرهان : أي إني على برهان من ربي ويقين ، لا على هوى وشك ، أمره الله سبحانه بأن يبين لهم أن ما هو عليه من عبادة ربه هو عن حجة برهانية يقينية ، لا كما هم عليه من اتباع الشبه الداحضة والشكوك الفاسدة التي لا مستند لها إلا مجرد الأهوية الباطلة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وكذبتم به أي بالرب أو بالعذاب أو بالقرآن أو بالبينة ، والتذكير للضمير باعتبار المعنى .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الجملة إما حالية بتقدير قد : أي والحال أن قد كذبتم به ، أو جملة مستأنفة مبينة لما هم عليه من التكذيب بما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من الحجج الواضحة والبراهين البينة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ما عندي ما تستعجلون به أخبرهم بأنه لم يكن عنده ما يتعجلونه من العذاب ، فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم ، يستعجلون نزوله استهزاء ، نحو قوله : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا [ الإسراء : 92 ] ، وقولهم : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء [ الأنفال : 32 ] ، وقولهم : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين [ سبأ : 29 ] ، وقيل : ما عندي ما تستعجلون به من الآيات التي تقترحونها علي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إن الحكم إلا لله : أي ما الحكم في كل شيء إلا لله سبحانه ، ومن جملة ذلك ما تستعجلون به من العذاب أو الآيات المقترحة .

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد : الحكم الفاصل بين الحق والباطل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : يقص الحق قرأ نافع وابن كثير ، وعاصم " يقص " بالقاف والصاد المهملة ، وقرأ الباقون " يقضي " بالضاد المعجمة والياء ، وكذا قرأ علي وأبو عبد الرحمن السلمي وسعيد بن المسيب ، وهو مكتوب في المصحف بغير ياء .

                                                                                                                                                                                                                                      فعلى القراءة الأولى هو من القصص : أي يقص القصص الحق ، أو من قص أثره : أي يتبع الحق فيما يحكم به .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى القراءة الثانية هو من القضاء : أي يقضي القضاء بين عباده ، والحق منتصب على المفعولية ، أو على أنه صفة لمصدر محذوف : أي يقضي القضاء الحق ، أو يقص القصص الحق وهو خير الفاصلين أي بين الحق والباطل بما يقضي به بين عباده ويفصله لهم في كتابه ، ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم : لو أن عندي ما تستعجلون به أي : ما تطلبون تعجيله بأن يكون إنزاله بكم مقدورا لي وفي وسعي لقضي الأمر بيني وبينكم أي لقضى الله الأمر بيننا بأن ينزله الله سبحانه بكم بسؤالي له وطلبي ذلك ، أو المعنى : لو كان العذاب الذي تطلبونه وتستعجلون به عندي وفي قبضتي لأنزلته بكم ، وعند ذلك يقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين وبالوقت الذي ينزل فيه عذابهم وبما تقتضيه مشيئته من تأخيره استدراجا لهم وإعذارا إليهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو المفاتح جمع مفتح بالفتح : وهو المخزن : أي عنده مخازن الغيب ، جعل للأمور الغيبية مخازن تخزن فيها على طريق الاستعارة ، أو جمع مفتح بكسر الميم ، وهو المفتاح ، جعل للأمور الغيبية مفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن منها على طريق الاستعارة أيضا ، ويؤيد أنها جمع مفتح بالكسر قراءة ابن السميفع : ( وعنده مفاتيح الغيب ) فإن المفاتيح جمع مفتاح والمعنى : إن عنده سبحانه خاصة مخازن الغيب ، أو المفاتح التي يتوصل بها إلى المخازن .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : لا يعلمها إلا هو جملة مؤكدة لمضمون الجملة الأولى ، وأنه لا علم لأحد من خلقه بشيء من الأمور الغيبية التي استأثر الله بعلمها ، ويندرج تحت هذه الآية علم ما يستعجله الكفار من العذاب كما يرشد إليه السياق اندراجا أوليا .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من المدعين ما ليس من شأنهم ، ولا يدخل تحت قدرتهم ولا يحيط به علمهم ، ولقد ابتلي الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة والأنواع المخذولة ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق - صلى الله عليه وآله وسلم - : من أتى كاهنا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ويعلم ما في البر والبحر خصهما بالذكر لأنهما من أعظم مخلوقات الله : أي يعلم ما فيهما من حيوان وجماد علما مفصلا لا يخفى عليه منه شيء ، أو خصهما لكونهما أكثر ما يشاهده الناس ويتطلعون لعلم ما فيهما وما تسقط من ورقة إلا يعلمها أي من ورق الشجر وهو تخصيص بعد التعميم : أي يعلمها ويعلم زمان سقوطها ومكانه ، وقيل : المراد بالورقة ما يكتب فيه الآجال والأرزاق ، وحكى النقاش عن جعفر بن محمد أن الورقة يراد بها هنا السقط من أولاد بني آدم ، قال ابن عطية : وهذا قول جار على طريقة الرموز ولا يصح عن جعفر بن محمد ولا ينبغي أن يلتفت إليه ولا حبة كائنة في ظلمات الأرض أي في الأمكنة المظلمة ، وقيل : في بطن الأرض : ولا رطب ولا يابس بالخفض عطفا على حبة : وهي معطوفة على ورقة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن السميفع والحسن وغيرهما ، بالرفع عطفا على موضع من ورقة ، وقد شمل وصف الرطوبة واليبوسة جميع الموجودات .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إلا في كتاب مبين هو اللوح المحفوظ ، فتكون هذه الجملة بدل اشتمال من إلا يعلمها وقيل : هو عبارة عن [ ص: 424 ] علمه فتكون هذه الجملة بدل كل من تلك الجملة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن أبي عمران الجوني في قوله : قل إني على بينة من ربي قال : على ثقة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عكرمة في قوله : لقضي الأمر بيني وبينكم قال : لقامت الساعة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي ، في قوله : وعنده مفاتح الغيب قال : يقول خزائن الغيب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس ، في قوله : وعنده مفاتح الغيب قال : هن خمس إن الله عنده علم الساعة إلى قوله : عليم خبير .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد ، والبخاري ، وغيرهما ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ، لا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ، ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس : وما تسقط من ورقة إلا يعلمها قال : ما من شجرة في بر ولا بحر إلا وبها ملك يكتب ما يسقط من ورقها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ ، عن مجاهد نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ ، عن محمد بن جحادة في قوله : وما تسقط من ورقة قال : لله تبارك وتعالى شجرة تحت العرش ليس مخلوق إلا له فيها ورقة فإذا سقطت ورقته خرجت روحه من جسده ، فذلك قوله : وما تسقط من ورقة إلا يعلمها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الخطيب في تاريخه بسند ضعيف عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ما من زرع على الأرض ولا ثمار على أشجار إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا رزق فلان ابن فلان فذلك قوله تعالى : وما تسقط من الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد رواه ابن يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكره .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس ، أنه تلا هذه الآية : ولا رطب ولا يابس فقال : الرطب واليابس من كل شيء .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية