الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 488 ] قوله عز وجل:

من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين .

"غير مضار" نصب على الحال، والعامل "يوصى"، و "وصية" نصب على المصدر في موضع الحال، والعامل "يوصيكم"، وقيل: هو نصب على الخروج من قوله: فلكل واحد منهما السدس أو من قوله: فهم شركاء في الثلث ، ويصح أن يعمل "مضار" في "وصية"، والمعنى أن يقع الضرر بها وبسببها فأوقع عليها تجوزا. وقرأ الحسن بن أبي الحسن: "غير مضار وصية" بالإضافة، كما تقول: شجاع حرب، ومدره حرب، وبضة المتجرد، في قول طرفة بن العبد، والمعنى على ما ذكرناه من التجوز في اللفظ لصحة المعنى.

وقال ابن عباس: الضرار في الوصية من الكبائر، رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ضار في وصية ألقاه الله تعالى في واد في جهنم".

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ووجوه المضارة كثيرة لا تنحصر، وكلها ممنوعة: يقر بحق ليس عليه، ويوصي بأكثر من ثلثه، أو لوارثه، أو بالثلث فرارا عن وارث محتاج، وغير ذلك، ومشهور مذهب مالك وابن القاسم أن الموصي لا يعد فعله مضارة ما دام في الثلث، فإن ضار الورثة في ثلثه مضى ذلك، وفي المذهب قوله: إن المضارة ترد وإن كانت في الثلث، إذا علمت بإقرار أو قرينة، ويؤيد هذا قوله تعالى: فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم ...الآية.

[ ص: 489 ] تلك حدود الله ... الآية. "تلك" إشارة إلى القسمة المتقدمة في المواريث، والحد: الحجز المانع لأمر ما أن يدخل على غيره أو يدخل عليه غيره، ومن هذا قولهم للبواب: حداد لأنه يمنع، ومنه إحداد المرأة وهو امتناعها عن الزينة، هذا هو الحد في هذه الآية.

وقوله: "من تحتها" يريد من تحت بنائها وأشجارها الذي من أجله سميت جنة، لأن أنهار الجنة إنما هي على وجه أرضها في غير أخاديد.

وحكى الطبري: إن الحدود عند السدي هنا شروط الله، وعند ابن عباس: طاعة الله، وعند بعضهم: سنة الله، وعند بعضهم: فرائض الله، وهذا كله معنى واحد وعبارة مختلفة. و"خالدين" قال الزجاج: هي حالة على التقدير، أي: مقدرين خالدين فيها، وجمع "خالدين" على معنى "من" بعد أن تقدم الإفراد مراعاة للفظ "من"، وعكس هذا لا يجوز.

وقوله: ومن يعص الله ورسوله ... الآية، قرأ نافع وابن عامر: "ندخله" بنون العظمة، وقرأ الباقون: "يدخله" بالياء فيهما جميعا، وهذه آيتا وعد ووعيد، وتقدم الإيجاز في ذلك، ورجى الله تعالى على التزام هذه الحدود في قسمة الميراث، وتوعد على العصيان فيها بحسب إنكار العرب لهذه القسمة، وقد كلم فيها النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن وغيره. .

التالي السابق


الخدمات العلمية