الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله (تعالى): لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ؛ قيل في معنى البر ههنا وجهان؛ أحدهما: "الجنة"؛ وروي ذلك عن عمرو بن ميمون ؛ والسدي ؛ وقيل فيه: "البر بفعل الخير الذي يستحقون به الأجر"؛ والنفقة ههنا إخراج ما يحبه في سبيل الله (تعالى)؛ من صدقة أو غيرها؛ وروى يزيد بن هارون ؛ عن حميد؛ عن أنس قال: لما نزلت: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ؛ و من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ؛ قال أبو طلحة : يا رسول الله; حائطي الذي بمكان كذا وكذا لله (تعالى)؛ ولو استطعت أن أسره ما أعلنته؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجعله في قرابتك"؛ أو: "في أقربائك"؛ وروى يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو ؛ عن أبي عمر بن حماس؛ عن حمزة بن عبد الله ؛ عن عبد الله بن عمر قال: "خطرت هذه الآية: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ؛ فتذكرت ما أعطاني الله؛ فلم أجد شيئا أحب إلي من جاريتي أميمة ؛ فقلت: هي حرة لوجه الله؛ فلولا أن أعود في شيء فعلته لله لنكحتها؛ فأنكحتها نافعا ؛ وهي أم ولده"؛ حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن أيوب؛ وغيره؛ أنها حين نزلت: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ؛ جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها؛ فقال: يا رسول الله; هذه في سبيل الله؛ فحمل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها أسامة بن [ ص: 301 ] زيد؛ فكأن زيدا وجد في نفسه؛ فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك منه قال: "أما الله (تعالى) فقد قبلها"؛ وروي عن الحسن أنه قال: هو الزكاة الواجبة؛ وما فرض الله (تعالى) في الأموال.

قال أبو بكر : عتق ابن عمر للجارية على تأويل الآية يدل على أنه رأى كل ما أخرج على وجه القربة إلى الله فهو من النفقة المرادة بالآية؛ ويدل على أن ذلك كان عنده عاما في الفروض؛ والنوافل؛ وكذلك فعل أبي طلحة ؛ وزيد بن حارثة ؛ يدل على أنهم لم يروا ذلك مقصورا على الفرض؛ دون النفل؛ ويكون حينئذ معنى قوله (تعالى): لن تنالوا البر ؛ على أنكم لن تنالوا البر الذي هو في أعلى منازل القرب؛ حتى تنفقوا مما تحبون؛ على وجه المبالغة في الترغيب فيه; لأن الإنفاق مما يحب يدل على صدق نيته؛ كما قال (تعالى): لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ؛ وقد يجوز إطلاق مثله في اللغة؛ وإن لم يرد به نفي الأصل؛ وإنما يريد به نفي الكمال؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان؛ والتمرة والتمرتان؛ ولكن المسكين الذي لا يجد ما ينفق؛ ولا يفطن له؛ فيتصدق عليه"؛ فأطلق ذلك على وجه المبالغة في الوصف له بالمسكنة؛ لا على نفي المسكنة عن غيره على الحقيقة.

التالي السابق


الخدمات العلمية