الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله (تعالى): كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ؛ قال أبو بكر : هذا يوجب أن يكون جميع المأكولات قد كان مباحا لبني إسرائيل؛ إلى أن حرم إسرائيل ما حرمه على نفسه؛ وروي عن ابن عباس ؛ والحسن : "إنه أخذه وجع عرق النسا؛ فحرم أحب الطعام إليه إن شفاه الله؛ على وجه النذر؛ وهو لحوم الإبل"؛ وقال قتادة : "حرم العروق"؛ وروي أن إسرائيل؛ وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام - نذر إن برئ من عرق النسا أن يحرم أحب الطعام والشراب إليه؛ وهو لحوم الإبل؛ وألبانها؛ وكان سبب نزول هذه الآية أن اليهود أنكروا تحليل النبي - صلى الله عليه وسلم - لحوم الإبل; لأنهم لا يرون النسخ جائزا؛ فأنزل الله هذه الآية؛ وبين أنها كانت مباحة لإبراهيم؛ وولده؛ إلى أن حرمها إسرائيل على نفسه؛ وحاجهم بالتوراة؛ فلم يجسروا على إحضارها لعلمهم بصدق ما أخبر أنه فيها؛ وبين بذلك بطلان قولهم في إباء النسخ ؛ إذ ما جاز أن يكون مباحا في وقت؛ ثم حظر؛ جازت إباحته بعد حظره؛ وفيه الدلالة على صحة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -; لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أميا لا يقرأ الكتاب؛ ولم يجالس أهل الكتاب؛ فلم يعرف سرائر كتب الأنبياء المتقدمين؛ إلا بإعلام الله إياه؛ وهذا الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه صار محظورا عليه وعلى بني إسرائيل؛ يدل [ ص: 302 ] عليه قوله (تعالى): كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ؛ فاستثني ذلك مما أحله (تعالى) لبني إسرائيل؛ ثم حظره إسرائيل على نفسه؛ فدل على أنه صار محظورا عليه وعليهم؛ فإن قيل: كيف يجوز للإنسان أن يحرم على نفسه شيئا وهو لا يعلم موقع المصلحة في الحظر؛ والإباحة؛ إذ كان علم المصالح في العبادات لله (تعالى) وحده؟ قيل: هذا جائز بأن يأذن الله (تعالى) له فيه؛ كما يجوز الاجتهاد في الأحكام بإذن الله (تعالى ) فيكون ما يؤدي إليه الاجتهاد حكما لله (تعالى)؛ وأيضا فجائز للإنسان أن يحرم امرأته على نفسه بالطلاق؛ ويحرم جاريته بالعتق؛ فكذلك جائز أن يأذن الله (تعالى) له في تحريم الطعام؛ إما من جهة النص؛ أو الاجتهاد؛ وما حرمه إسرائيل على نفسه لا يخلو من أن يكون تحريمه صدر عن اجتهاد منه في ذلك؛ أو توقيفا من الله (تعالى) له في إباحة التحريم له؛ إن شاء؛ وظاهر الآية يدل على أن تحريمه صدر عن اجتهاد منه في ذلك؛ لإضافة الله (تعالى) التحريم إليه؛ ولو كان ذلك عن توقيف لقال: "إلا ما حرم الله على بني إسرائيل"؛ فلما أضاف التحريم إليه دل ذلك على أنه كان جعل إليه إيجاب التحريم من طريق الاجتهاد؛ وهذا يدل على أنهجائز أن يجعل للنبي - صلى الله عليه وسلم - الاجتهاد في الأحكام ؛ كما جاز لغيره؛ والنبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بذلك؛ لفضل رأيه وعلمه بوجوه المقاييس؛ واجتهاد الرأي؛ وقد بينا ذلك في أصول الفقه.

قال أبو بكر : قد دلت الآية على أن تحريم إسرائيل لما حرمه من الطعام على نفسه قد كان واقعا؛ ولم يكن موجب لفظه شيئا غير التحريم؛ وهذا المعنى هو منسوخ بشريعة نبينا - صلى الله عليه وسلم -؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرم مارية على نفسه؛ وقيل: إنه حرم العسل؛ فلم يحرمهما الله (تعالى) عليه؛ وجعل موجب لفظه كفارة يمين؛ بقوله (تعالى): يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك ؛ إلى قوله (تعالى): قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ؛ فجعل في التحريم كفارة يمين إذا استباح ما حرم؛ بمنزلة الحلف ألا يستبيحه؛ وكذلك قال أصحابنا - فيمن حرم على نفسه جارية؛ أو شيئا من ملكه -: "إنه لا يحرم عليه؛ وله أن يستبيحه بعد التحريم؛ وتلزمه كفارة يمين؛ بمنزلة من حلف ألا يأكل هذا الطعام"؛ إلا أنهم خالفوا بينه وبين اليمين من وجه؛ وهو أن القائل: "والله لا أكلت هذا الطعام"؛ لا يحنث إلا بأكل جميعه؛ ولو قال: "قد حرمت هذا الطعام على نفسي"؛ حنث بأكل جزء منه; لأن الحالف لما حلف عليه بلفظ التحريم فقد قصد إلى الحنث بأكل الجزء منه؛ بمنزلة قوله: "والله لا آكل شيئا منه"; لأن ما حرمه الله (تعالى) من الأشياء [ ص: 303 ] فتحريمه شامل لقليله وكثيره؛ وكذلك المحرم له على نفسه؛ عاقد لليمين على كل جزء منه ألا يأكل.

التالي السابق


الخدمات العلمية