الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها وأن الناس في المسجد الحرام سواء خاصة لقوله تعالى إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم البادي الطاري معكوفا محبوسا

                                                                                                                                                                                                        1511 حدثنا أصبغ قال أخبرني ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قال يا رسول الله أين تنزل في دارك بمكة فقال وهل ترك عقيل من رباع أو دور وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرثه جعفر ولا علي رضي الله عنهما شيئا لأنهما كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لا يرث المؤمن الكافر قال ابن شهاب وكانوا يتأولون قول الله تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض الآية

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب توريث دور مكة وبيعها وشراؤها ، وأن الناس في المسجد الحرام سواء خاصة لقوله تعالى : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء الآية ) أشار بهذه الترجمة إلى تضعيف حديث علقمة بن نضلة قال : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، وما تدعى رباع مكة إلا السوائب ، من احتاج سكن . أخرجه ابن ماجه وفي إسناده انقطاع وإرسال ، وقال بظاهره ابن عمر ، ومجاهد ، وعطاء ، قال عبد الرزاق عن ابن جريج : كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم ، فأخبرني أن عمر نهى أن تبوب دور مكة لأنها ينزل الحاج في عرصاتها ، فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو واعتذر عن ذلك لعمر . وروى الطحاوي من طريق إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد ، أنه قال : مكة مباح ، لا يحل بيع رباعها ولا إجارة بيوتها . وروى عبد الرزاق من طريق إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد : عن ابن عمر : لا يحل بيع بيوت مكة ولا إجارتها . وبه قال الثوري ، وأبو حنيفة ، وخالفه صاحبه أبو يوسف ، واختلف عن محمد ، وبالجواز قال الجمهور واختاره الطحاوي . ويجاب عن حديث علقمة [ ص: 527 ] على تقدير صحته بحمله على ما سيجمع به ما اختلف عن عمر في ذلك . واحتج الشافعي بحديث أسامة الذي أورده البخاري في هذا الباب ، قال الشافعي : فأضاف الملك إليه وإلى من ابتاعها منه ، وبقوله صلى الله عليه وسلم عام الفتح : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن . فأضاف الدار إليه . واحتج ابن خزيمة بقوله تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم فنسب الله الديار إليهم كما نسب الأموال إليهم ، ولو كانت الديار ليست بملك لهم لما كانوا مظلومين في الإخراج من دور ليست بملك لهم ، قال : ولو كانت الدور التي باعها عقيل لا تملك لكان جعفر وعلي أولى بها إذ كانا مسلمين دونه . وسيأتي في البيوع أثر عمر أنه اشترى دارا للسجن بمكة . ولا يعارض ما جاء عن نافع ، عن ابن عمر : عن عمر أنه كان ينهى أن تغلق دور مكة في زمن الحاج . أخرجه عبد بن حميد ، وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن منصور ، عن مجاهد : إن عمر قال : يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا ، لينزل البادي حيث شاء . وقد تقدم من وجه آخر عن عمر ، فيجمع بينهما بكرامة الكراء رفقا بالوفود ، ولا يلزم من ذلك منع البيع والشراء ، وإلى هذا جنح الإمام أحمد وآخرون . واختلف عن مالك في ذلك ، قال القاضي إسماعيل : ظاهر القرآن يدل على أن المراد به المسجد الذي يكون فيه النسك والصلاة لا سائر دور مكة . وقال الأبهري : لم يختلف قول مالك وأصحابه في أن مكة فتحت عنوة ، واختلفوا : هل من بها على أهلها لعظم حرمتها أو أقرت للمسلمين ؟ ومن ثم جاء الاختلاف في بيع دورها والكراء ، والراجح عند من قال : إنها فتحت عنوة أن النبي صلى الله عليه وسلم من بها على أهلها فخالفت حكم غيرها من البلاد في ذلك ، ذكره السهيلي وغيره ، وليس الاختلاف في ذلك ناشئا عن هذه المسألة ، فقد اختلف أهل التأويل في المراد بقوله هنا : " المسجد الحرام " ، هل هو الحرم كله أو مكان الصلاة فقط ، واختلفوا أيضا هل المراد بقوله : " سواء " في الأمن والاحترام أو فيما هو أعم من ذلك وبواسطة ذلك نشأ الاختلاف المذكور أيضا ، قال ابن خزيمة : لو كان المراد بقوله تعالى : سواء العاكف فيه والباد جميع الحرم ، وأن اسم المسجد الحرام واقع على جميع الحرم لما جاز حفر بئر ولا قبر ولا التغوط ولا البول ولا إلقاء الجيف والنتن . قال : ولا نعلم عالما منع من ذلك ولا كره لحائض ولا لجنب دخول الحرم ولا الجماع فيه ، ولو كان كذلك لجاز الاعتكاف في دور مكة وحوانيتها ، ولا يقول بذلك أحد ، والله أعلم . قلت : والقول بأن المراد بالمسجد الحرام الحرم كله ورد عن ابن عباس وعطاء ومجاهد ، أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عنهم ، والأسانيد بذلك كلها إليهم ضعيفة ، وسنذكر في " باب فتح مكة " من المغازي الراجح من الخلاف في فتحها صلحا أو عنوة ، إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( البادي : الطارئ ) هو تفسير منه بالمعنى ، وهو مقتضى ما جاء عن ابن عباس وغيره كما رواه عبد بن حميد وغيره . وقال الإسماعيلي : البادي الذي يكون في البدو ، وكذا من كان ظاهر البلد فهو باد ، ومعنى الآية أن المقيم والطارئ سيان . وروىعبد الرزاق ، عن معمر عن قتادة ( سواء العاكف فيه والباد ) قال : سواء فيه أهل مكة وغيرهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( معكوفا : محبوسا ) كذا وقع هنا ، وليست هذه الكلمة في الآية المذكورة ، وإنما هي في آية الفتح ، ولكن مناسبة ذكرها هنا قوله في هذه الآية : العاكف ، والتفسير المذكور قاله أبو عبيدة في المجاز ، [ ص: 528 ] والمراد بالعاكف : المقيم . وروى الطحاوي من طريق سفيان ، عن أبي حصين قال : أردت أن أعتكف وأنا بمكة ، فسألت سعيد بن جبير ، فقال : أنت عاكف ، ثم قرأ هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن علي بن الحسين ، عن عمرو بن عثمان ) في رواية مسلم ، عن حرملة وغيره عن ابن وهب : " أن علي بن الحسين أخبره أن عمرو بن عثمان أخبره " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أين تنزل ، في دارك ) حذف أداة الاستفهام من قوله : " في دارك " بدليل رواية ابن خزيمة ، والطحاوي ، عن يونس ، عن عبد الأعلى ، عن ابن وهب بلفظ : " أتنزل في دارك " وكذا أخرجه الجوزقي من وجه آخر عن أصبغ شيخ البخاري فيه ، وللمصنف في المغازي من طريق محمد بن أبي حفصة ، عن الزهري " أين تنزل غدا ؟ " فكأنه استفهمه أولا عن مكان نزوله ثم ظن أنه ينزل في داره فاستفهمه عن ذلك ، وظاهر هذه القصة أن ذلك كان حين أراد دخول مكة ، ويزيده وضوحا رواية زمعة بن صالح ، عن الزهري بلفظ : لما كان يوم الفتح قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة قيل : أين تنزل ، أفي بيوتكم ، الحديث . وروى علي بن المديني ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن محمد بن علي بن حسين قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة : أين تنزل ؟ قال : وهل ترك لنا عقيل من طل . قال علي بن المديني : ما أشك أن محمد بن علي بن الحسين أخذ هذا الحديث عن أبيه ، لكن في حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك حين أراد أن ينفر من منى ، فيحمل على تعدد القصة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وهل ترك عقيل ) في رواية مسلم وغيره : " وهل ترك لنا " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( من رباع أو دور ) الرباع جمع ربع بفتح الراء وسكون الموحدة ، وهو المنزل المشتمل على أبيات ، وقيل : هو الدار ، فعلى هذا فقوله : " أو دور " إما للتأكيد أو من شك الراوي . وفي رواية محمد بن أبي حفصة : " من منزل " ، وأخرج هذا الحديث الفاكهي من طريق محمد بن أبي حفصة ، وقال في آخره : ويقال : إن الدار التي أشار إليها كانت دار هاشم بن عبد مناف ، ثم صارت لعبد المطلب ابنه ، فقسمها بين ولده حين عمر ، فمن ثم صار للنبي صلى الله عليه وسلم حق أبيه عبد الله ، وفيها ولد النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وكان عقيل . . . إلخ ) محصل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر استولى عقيل وطالب على الدار كلها باعتبار ما ورثاه من أبيهما لكونهما كانا لم يسلما ، وباعتبار ترك النبي صلى الله عليه وسلم لحقه منها بالهجرة ، وفقد طالب ببدر فباع عقيل الدار كلها . وحكى الفاكهي أن الدار لم تزل بأولاد عقيل إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمائة ألف دينار [1] وزاد في روايته من طريق محمد بن أبي حفصة : " فكان علي بن الحسين يقول من أجل ذلك : تركنا نصيبنا من الشعب " أي حصة جدهم علي من أبيه أبي طالب . وقال الداودي وغيره : كان من هاجر من المؤمنين باع قريبه الكافر داره ، وأمضى النبي صلى الله عليه وسلم تصرفات الجاهلية تأليفا لقلوب من أسلم منهم ، وسيأتي في الجهاد مزيد بسط في هذه المسألة ، إن شاء الله تعالى . وقال الخطابي : وعندي أن تلك الدار إن كانت قائمة على ملك عقيل فإنما لم ينزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها دور هجروها في الله تعالى ، فلم يرجعوا فيما تركوه . وتعقب بأن سياق الحديث يقتضي أن عقيلا باعها ، ومفهومه أنه لو تركها لنزلها .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 529 ] قوله : ( فكان عمر ) في رواية أحمد بن صالح ، عن ابن وهب عند الإسماعيلي : " فمن أجل ذلك كان عمر يقول : " وهذا القدر الموقوف على عمر قد ثبت مرفوعا بهذا الإسناد ، وهو عند المصنف في المغازي من طريق محمد بن أبي حفصة ، ومعمر ، عن الزهري ، وأخرجه مفردا في الفرائض من طريق ابن جريج عنه ، وسيأتي الكلام عليه مستوفى هناك ، إن شاء الله تعالى . ويختلج في خاطري أن القائل : " وكان عمر . . . إلخ " هو ابن شهاب فيكون منقطعا عن عمر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال ابن شهاب : وكانوا يتأولون . . . إلخ ) أي كانوا يفسرون قوله تعالى : بعضهم أولياء بعض بولاية الميراث ، أي يتولى بعضهم بعضا في الميراث وغيره .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية