الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا )

يقول تعالى ذكره مخبرا عن المشركين الذين ذكرنا أمرهم في هذه الآيات : أو يكون لك يا محمد بيت من ذهب ، وهو الزخرف .

كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( أو يكون لك بيت من زخرف ) يقول : بيت من ذهب .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله ( من زخرف ) قال : من ذهب .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( أو يكون لك بيت من زخرف ) والزخرف هنا : الذهب .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله ( أو يكون لك بيت من زخرف ) قال : من ذهب .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن رجل ، عن الحكم قال : قال مجاهد : كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيناه في قراءة ابن مسعود : " أو يكون لك بيت من ذهب " .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، قال : لم أدر ما الزخرف ، حتى سمعنا في قراءة عبد الله بن مسعود : " بيت من ذهب " . [ ص: 554 ]

وقوله ( أو ترقى في السماء ) يعني : أو تصعد في درج إلى السماء ، وإنما قيل في السماء ، وإنما يرقى إليها لا فيها ، لأن القوم قالوا : أو ترقى في سلم إلى السماء ، فأدخلت " في " في الكلام ليدل على معنى الكلام ، يقال : رقيت في السلم ، فأنا أرقى رقيا ورقيا ورقيا ، كما قال الشاعر :


أنت الذي كلفتني رقي الدرج على الكلال والمشيب والعرج



وقوله ( ولن نؤمن لرقيك ) يقول : ولن نصدقك من أجل رقيك إلى السماء ( حتى تنزل علينا كتابا ) منشورا نقرؤه فيه أمرنا باتباعك والإيمان بك .

كما حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قالا ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله ( كتابا نقرؤه ) قال : من رب العالمين إلى فلان ، عند كل رجل صحيفة تصبح عند رأسه يقرؤها .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه ، إلا أنه قال : كتابا نقرؤه من رب العالمين ، وقال أيضا : تصبح عند رأسه موضوعة يقرؤها .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ) : أي كتابا خاصا نؤمر فيه باتباعك .

وقوله ( قل سبحان ربي ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك ، القائلين لك هذه الأقوال ، تنزيها لله عما يصفونه به ، وتعظيما له من أن يؤتى به وملائكته ، أو يكون لي سبيل إلى شيء مما تسألونيه ( هل كنت إلا بشرا رسولا ) يقول : هل أنا إلا عبد من عبيده من بني آدم ، فكيف أقدر أن أفعل ما سألتموني من هذه الأمور ، وإنما يقدر عليها خالقي وخالقكم ، وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم ، والذي سألتموني أن أفعله بيد الله الذي أنا وأنتم عبيد له ، لا يقدر على ذلك غيره . [ ص: 555 ]

وهذا الكلام الذي أخبر الله أنه كلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر كان من ملإ من قريش اجتمعوا لمناظرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاجته ، فكلموه بما أخبر الله عنهم في هذه الآيات . . .

ذكر تسمية الذين ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك منهم والسبب الذي من أجله ناظروه به حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا يونس بن بكير ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني شيخ من أهل مصر ، قدم منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلا من بني عبد الدار وأبا البختري أخا بني أسد ، والأسود بن المطلب ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبا جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل ، ونبيها ومنبها ابني الحجاج السهميين اجتمعوا ، أو من اجتمع منهم ، بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه ، فبعثوا إليه : إن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك ، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا ، وهو يظن أنه بدا لهم في أمره بداء ، وكان عليهم حريصا ، يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم ، حتى جلس إليهم ، فقالوا : يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك ، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء ، وعبت الدين ، وسفهت الأحلام ، وشتمت الآلهة ، وفرقت الجماعة ، فما بقي أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك ، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا ، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك به رئيا تراه قد غلب عليك وكانوا يسمون التابع من الجن : الرئي ، فربما كان ذلك ، بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه ، أو نعذر فيك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بي ما تقولون ، ما جئتكم بما جئتكم [ ص: 556 ] به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا ، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا ، فبلغتكم رسالة ربي ، ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم " ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ، فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك ، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا ، ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا ، فسل ربك الذي بعثك بما بعثك به ، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ، ويبسط لنا بلادنا ، وليفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب ، فإنه كان شيخا صدوقا ، فنسألهم عما تقول ، حق هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك ، وصدقوك صدقناك ، وعرفنا به منزلتك عند الله ، وأنه بعثك بالحق رسولا كما تقول . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بهذا بعثت ، إنما جئتكم من الله بما بعثني به ، فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم " قالوا : فإن لم تفعل لنا هذا ، فخذ لنفسك ، فسل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول ، ويراجعنا عنك ، واسأله فليجعل لك جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة ، ويغنيك بها عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق ، وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنا بفاعل ، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا ، وما بعثت إليكم بهذا ، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا ، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم قالوا : فأسقط السماء علينا كسفا ، كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك ، فقالوا : يا محمد ، فما علم ربك أنا سنجلس معك ، ونسألك [ ص: 557 ] عما سألناك عنه ، ونطلب منك ما نطلب ، فيتقدم إليك ، ويعلمك ما تراجعنا به ، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به ، فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن ، وإنا والله ما نؤمن بالرحمن أبدا ، أعذرنا إليك يا محمد ، أما والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا ، وقال قائلهم : نحن نعبد الملائكة ، وهن بنات الله ، وقال قائلهم : لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا . فلما قالوا ذلك ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ، وهو ابن عمته هو لعاتكة بنت عبد المطلب ، فقال له : يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ، ليعرفوا منزلتك من الله فلم تفعل ذلك ، ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب ، فوالله لا أومن لك أبدا ، حتى تتخذ إلى السماء سلما ترقى فيه ، وأنا أنظر حتى تأتيها ، وتأتي معك بنسخة منشورة معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول ، وايم الله لو فعلت ذلك لظننت ألا أصدقك ، ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا أسيفا لما فاته مما كان يطمع فيه من قومه حين دعوه ، ولما رأى من مباعدتهم إياه ، فلما قام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أبو جهل : يا معشر قريش ، إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وسب آلهتنا ، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر قدر ما أطيق حمله ، فإذا سجد في صلاته فضخت رأسه به .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثنا ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، بنحوه ، إلا أنه قال : وأبا سفيان بن حرب ، والنضر بن الحارث أبناء بني عبد الدار ، وأبا البختري بن هشام . [ ص: 558 ]

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد ، قال : قلت له في قوله تعالى ( لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) قال : قلت له : نزلت في عبد الله بن أبي أمية ، قال : قد زعموا ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية