الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا )

اختلفت القراء في قراءة قوله ( لقد علمت ) فقرأ عامة قراء الأمصار ذلك ( لقد علمت ) بفتح التاء ، على وجه الخطاب من موسى لفرعون ، وروي عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه في ذلك ، أنه قرأ " لقد علمت " بضم التاء ، على وجه الخبر من موسى عن نفسه ، ومن قرأ ذلك على هذه القراءة ، فإنه ينبغي [ ص: 569 ] أن يكون على مذهبه تأويل قوله ( إني لأظنك يا موسى مسحورا ) إني لأظنك قد سحرت ، فترى أنك تتكلم بصواب وليس بصواب ، وهذا وجه من التأويل ، غير أن القراءة التي عليها قراء الأمصار خلافها ، وغير جائز عندنا خلاف الحجة فيما جاءت به من القراءة مجمعة عليه .

وبعد ، فإن الله تعالى ذكره قد أخبر عن فرعون وقومه أنهم جحدوا ما جاءهم به موسى من الآيات التسع ، مع علمهم بأنها من عند الله بقوله ( وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ) فأخبر جل ثناؤه أنهم قالوا : هي سحر ، مع علمهم واستيقان أنفسهم بأنها من عند الله ، فكذلك قوله ( لقد علمت ) إنما هو خبر من موسى لفرعون بأنه عالم بأنها آيات من عند الله ، وقد ذكر عن ابن عباس أنه احتج في ذلك بمثل الذي ذكرنا من الحجة .

قال : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ ( لقد علمت ) يا فرعون بالنصب ( ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض ) ، ثم تلا ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ) . فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : قال موسى لفرعون : لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات التسع البينات التي أريتكها حجة لي على حقيقة ما أدعوك إليه ، وشاهدة لي على صدق وصحة قولي ، إني لله رسول ، ما بعثني إليك إلا رب السماوات والأرض ، لأن ذلك لا يقدر عليه ، ولا على أمثاله أحد سواه ، بصائر : يعني بالبصائر : الآيات ، أنهن بصائر لمن استبصر بهن ، وهدى لمن اهتدى بهن ، يعرف بهن من رآهن أن من جاء بهن فمحق ، وأنهن من عند الله لا من عند غيره ، إذ كن معجزات لا يقدر عليهن ، ولا على شيء منهن سوى رب السماوات والأرض ، وهو جمع بصيرة .

وقوله ( وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ) يقول : إني لأظنك يا فرعون ملعونا ممنوعا من الخير ، والعرب تقول : ما ثبرك عن هذا الأمر : أي ما منعك [ ص: 570 ] منه ، وما صدك عنه؟ وثبره الله فهو يثبره ويثبره لغتان ، ورجل مثبور : محبوس عن الخيرات هالك ، ومنه قول الشاعر :


إذ أجاري الشيطان في سنن الغي ومن مال ميله مثبور



وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا عبد الله بن عبد الله الكلابي ، قال : ثنا أبو خالد الأحمر ، قال : ثنا عمر بن عبد الله ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله ( وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ) قال ملعونا .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، قال : أخبرنا عمر بن عبد الله الثقفي ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله .

حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ) يقول : ملعونا .

وقال آخرون : بل معناه : إني لأظنك يا فرعون مغلوبا .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ) يعني : مغلوبا .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ) يقول : مغلوبا . [ ص: 571 ]

وقال بعضهم : معنى ذلك : إني لأظنك يا فرعون هالكا .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : مثبورا : أي هالكا .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ) : أي هالكا .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، بنحوه .

وقال آخرون : معناه : إني لأظنك مبدلا مغيرا .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عبد الله بن موسى ، عن عيسى بن موسى ، عن عطية ( وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ) قال : مبدلا .

وقال آخرون : معناه : مخبولا لا عقل له .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ) قال : الإنسان إذا لم يكن له عقل فما ينفعه؟ يعني : إذا لم يكن له عقل ينتفع به في دينه ومعاشه دعته العرب مثبورا ، قال : أظنك ليس لك عقل يا فرعون ، قال : بينا هو يخافه ولا ينطق لساني أن أقول هذا لفرعون ، فلما شرح الله صدره ، اجترأ أن يقول له فوق ما أمره الله .

وقد بينا الذي هو أولى بالصواب في ذلك قبل .

التالي السابق


الخدمات العلمية