الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ( 50 ) )

يقول تعالى ذكره مذكرا هؤلاء المشركين حسد إبليس أباهم ومعلمهم ما كان منه من كبره واستكباره عليه حين أمره بالسجود له ، وأنه من العداوة والحسد لهم على مثل الذي كان عليه لأبيهم : ( و ) اذكر يا محمد ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس ) الذي يطيعه هؤلاء المشركون ويتبعون أمره ، ويخالفون أمر الله ، فإنه لم يسجد له استكبارا على الله ، وحسدا لآدم ( كان من الجن ) .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله ( كان من الجن ) فقال بعضهم : إنه كان من قبيلة يقال لهم الجن . وقال آخرون : بل كان من خزان الجنة ، فنسب إلى الجنة ، وقال آخرون : بل قيل من الجن ، لأنه من الجن الذين استجنوا عن أعين بني آدم .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن خلاد بن عطاء ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : كان اسمه قبل أن يركب المعصية عزازيل ، وكان من سكان الأرض ، وكان من أشد الملائكة [ ص: 40 ] اجتهادا وأكثرهم علما ، فذلك هو الذي دعاه إلى الكبر ، وكان من حي يسمى جنا .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن ، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة ، وكان اسمه الحارث ، قال : وكان خازنا من خزان الجنة . قال : وخلقت الملائكة من نور غير هذا الحي ، قال : وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني شيبان ، قال : ثنا سلام بن مسكين ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : ( إلا إبليس كان من الجن ) قال : كان إبليس من خزان الجنة ، وكان يدبر أمر سماء الدنيا .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة . وكان خازنا على الجنان ، وكان له سلطان السماء الدنيا ، وكان له سلطان الأرض ، وكان فيما قضى الله أنه رأى أن له بذلك شرفا وعظمة على أهل السماء ، فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله ، فلما كان عند السجود حين أمره أن يسجد لآدم استخرج الله كبره عند السجود ، فلعنه وأخره إلى يوم الدين ، قال : قال ابن عباس : وقوله : ( كان من الجن ) إنما سمي بالجنان أنه كان خازنا عليها ، كما يقال للرجل : مكي ، ومدني ، وكوفي ، وبصري ، قاله ابن جريج .

وقال آخرون : هم سبط من الملائكة قبيلة ، وكان اسم قبيلته الجن .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن صالح مولى التوأمة ، وشريك بن أبي نمر أحدهما أو كلاهما ، عن ابن عباس ، قال : إن من الملائكة قبيلة من الجن ، وكان إبليس منها ، وكان يسوس ما بين السماء والأرض ، فعصى ، فسخط الله عليه فمسخه شيطانا رجيما ، لعنه الله ممسوخا ، قال : وإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه ، وإذا كانت خطيئته في معصية [ ص: 41 ] فارجه ، وكانت خطيئة آدم في معصية ، وخطيئة إبليس في كبر .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ) قبيل من الملائكة يقال لهم الجن ، وقال ابن عباس : لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود ، وكان على خزانة السماء الدنيا ، قال : وكان قتادة يقول : جن عن طاعة ربه ، وكان الحسن يقول : ألجأه الله إلى نسبه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله ( إلا إبليس كان من الجن ) قال : كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط ، وإنه لأصل الجن ، كما أن آدم عليه السلام أصل الإنس .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : كان إبليس على السماء الدنيا وعلى الأرض وخازن الجنان .

حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ) : كان ابن عباس يقول : إن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة ، وكان خازنا على الجنان ، وكان له سلطان السماء الدنيا وسلطان الأرض ، وكان مما سولت له نفسه من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفا على أهل السماء ، فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله ، فاستخرج الله ذلك الكبر منه حين أمره بالسجود لآدم ، فاستكبر وكان من الكافرين ، فذلك قوله للملائكة : ( إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ) يعني : ما أسر إبليس في نفسه من الكبر .

وقوله : ( كان من الجن ) كان ابن عباس يقول : قال الله ( كان من الجن ) لأنه كان خازنا على الجنان ، كما يقال للرجل : مكي ، ومدني ، وبصري ، وكوفي . [ ص: 42 ]

وقال آخرون : كان اسم قبيلة إبليس الجن ، وهم سبط من الملائكة يقال لهم الجن ، فلذلك قال الله عز وجل ( كان من الجن ) فنسبه إلى قبيلته .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله ( كان من الجن ) قال : من الجنانين الذين يعملون في الجنان .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا أبو سعيد اليحمدي إسماعيل بن إبراهيم ، قال : ثني سوار بن الجعد اليحمدي ، عن شهر بن حوشب ، قوله : ( من الجن ) قال : كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة ، فأسره بعض الملائكة ، فذهب به إلى السماء .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ) قال : كان خازن الجنان فسمي بالجنان .

حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : ثنا أحمد بن بشير ، عن سفيان بن أبي المقدام ، عن سعيد بن جبير ، قال : كان إبليس من خزنة الجنة .

وقد بينا القول في ذلك فيما مضى من كتابنا هذا ، وذكرنا اختلاف المختلفين فيه ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .

وقوله : ( ففسق عن أمر ربه ) يقول : فخرج عن أمر ربه ، وعدل عنه ومال ، كما قال رؤبة :


يهوين في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا



يعني بالفواسق : الإبل المنعدلة عن قصد نجد ، وكذلك الفسق في الدين إنما هو الانعدال عن القصد ، والميل عن الاستقامة ، ويحكى عن العرب سماعا : فسقت الرطبة من قشرها : إذا خرجت منه ، وفسقت الفأرة : إذا خرجت من جحرها ، وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : إنما قيل : ( ففسق عن أمر ربه ) لأنه مراد به : ففسق عن رده أمر الله ، كما تقول العرب : اتخمت عن الطعام ، [ ص: 43 ] بمعنى : اتخمت لما أكلته . وقد بينا القول في ذلك ، وأن معناه : عدل وجار عن أمر الله ، وخرج عنه . وقال بعض أهل العلم بكلام العرب : معنى الفسق : الاتساع . وزعم أن العرب تقول : فسق في النفقة : بمعنى اتسع فيها . قال : وإنما سمي الفاسق فاسقا ، لاتساعه في محارم الله .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى "ح" ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى ( ففسق عن أمر ربه ) قال : في السجود لآدم .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله ( ففسق عن أمر ربه ) قال : عصى في السجود لآدم .

وقوله : ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو ) يقول تعالى ذكره : أفتوالون يا بني آدم من استكبر على أبيكم وحسده ، وكفر نعمتي عليه ، وغره حتى أخرجه من الجنة ونعيم عيشه فيها إلى الأرض وضيق العيش فيها ، وتطيعونه وذريته من دون الله مع عدواته لكم قديما وحديثا ، وتتركون طاعة ربكم الذي أنعم عليكم وأكرمكم ، بأن أسجد لوالدكم ملائكته ، وأسكنه جناته ، وآتاكم من فواضل نعمه ما لا يحصى عدده ، وذرية إبليس : الشياطين الذين يغرون بني آدم . كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني ) قال : ذريته : هم الشياطين ، وكان يعدهم "زلنبور " صاحب الأسواق ويضع رايته في كل سوق ما بين السماء والأرض ، و "ثبر" صاحب المصائب ، و "الأعور" صاحب الزنا و"مسوط" صاحب الأخبار ، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس ، ولا يجدون لها أصلا و"داسم" الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر [ ص: 44 ] الله بصره من المتاع ما لم يرفع ، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : ثنا حفص بن غياث ، قال : سمعت الأعمش يقول : إذا دخلت البيت ولم أسلم ، رأيت مطهرة ، فقلت : ارفعوا ارفعوا ، وخاصمتهم ، ثم أذكر فأقول : داسم داسم .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قال : هم أربعة ثبر ، وداسم ، وزلنبور ، والأعور ، ومسوط أحدها .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني ) . . . . الآية ، وهم يتوالدون كما تتوالد بنو آدم ، وهم لكم عدو .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو ) وهو أبو الجن كما آدم أبو الإنس .

وقال : قال الله لإبليس : إني لا أذرأ لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها ، فليس من ولد آدم أحد إلا له شيطان قد قرن به .

وقوله : ( بئس للظالمين بدلا ) يقول عز ذكره : بئس البدل للكافرين بالله اتخاذ إبليس وذريته أولياء من دون الله ، وهم لكم عدو من تركهم اتخاذ الله وليا باتباعهم أمره ونهيه ، وهو المنعم عليهم وعلى أبيهم آدم من قبلهم ، المتفضل عليهم من الفواضل ما لا يحصى بدلا .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( بئس للظالمين بدلا ) بئسما استبدلوا بعبادة ربهم إذ أطاعوا إبليس .

التالي السابق


الخدمات العلمية