الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 138 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم ( 23 ) )

يقول تعالى ذكره : ( إن الذين يرمون ) بالفاحشة ( المحصنات ) يعني العفيفات ( الغافلات ) عن الفواحش ( المؤمنات ) بالله ورسوله ، وما جاء به من عند الله ، ( لعنوا في الدنيا والآخرة ) يقول : أبعدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة ، ( ولهم ) في الآخرة ( عذاب عظيم ) وذلك عذاب جهنم .

واختلف أهل التأويل في المحصنات اللاتي هذا حكمهن ، فقال بعضهم : إنما ذلك لعائشة خاصة ، وحكم من الله فيها وفيمن رماها ، دون سائر نساء أمة نبينا صلى الله عليه وسلم

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : ثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : ثنا خصيف ، قال : قلت لسعيد بن جبير : الزنا أشد أم قذف المحصنة؟ فقال : الزنا ، فقلت : أليس الله يقول : ( إن الذين يرمون المحصنات ) . . الآية؟ قال سعيد : إنما كان هذا لعائشة خاصة .

حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه ، قال : قالت عائشة : رميت بما رميت به وأنا غافلة ، فبلغني بعد ذلك ، قالت : فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي جالس ، إذ أوحي إليه ، وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السبات ، وأنه أوحي إليه وهو جالس عندي ، ثم استوى جالسا يمسح عن وجهه ، وقال : يا عائشة أبشري ، قالت : فقلت : بحمد الله لا بحمدك ، فقرأ : ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ) . . حتى بلغ : ( أولئك مبرءون مما يقولون ) .

وقال آخرون : بل ذلك لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، دون سائر النساء غيرهن .

ذكر من قال ذلك :

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ) . . الآية ، أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة .

[ ص: 139 ] وقال آخرون : نزلت هذه الآية في شأن عائشة ، وعني بها كل من كان بالصفة التي وصف الله في هذه الآية ، قالوا : فذلك حكم كل من رمى محصنة ، لم تقارف سوءا .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا علي بن سهل ، قال : ثنا زيد ، عن جعفر بن برقان ، قال : سألت ميمونا ، قلت : الذي ذكر الله : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ) . . إلى قوله : ( إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ) فجعل في هذه توبة ، وقال في الأخرى : ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات ) . . إلى قوله : ( لهم عذاب عظيم ) قال ميمون : أما الأولى فعسى أن تكون قد قارفت ، وأما هذه ، فهي التي لم تقارف شيئا من ذلك .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوام بن حوشب ، عن شيخ من بني أسد ، عن ابن عباس ، قال : فسر سورة النور ، فلما أتى على هذه الآية ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ) . . الآية ، قال : هذا في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي مبهمة ، وليست لهم توبة ، ثم قرأ ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ) . . إلى قوله : ( إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ) . . الآية ، قال : فجعل لهؤلاء توبة ، ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة ، قال : فهم بعض القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه من حسن ما فسر سورة النور .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم ) قال : هذا في عائشة ، ومن صنع هذا اليوم في المسلمات ، فله ما قال الله ، ولكن عائشة كانت إمام ذلك .

وقال آخرون : نزلت هذه الآية في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان ذلك كذلك حتى نزلت الآية التي في أول السورة فأوجب الجلد ، وقبل التوبة .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ) . . إلى : ( عذاب عظيم ) يعني أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، رماهن أهل النفاق ، فأوجب الله [ ص: 140 ] لهم اللعنة والغضب وباءوا بسخط من الله ، وكان ذلك في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم نزل بعد ذلك : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ) . . إلى قوله : ( فإن الله غفور رحيم ) فأنزل الله الجلد والتوبة ، فالتوبة تقبل ، والشهادة ترد .

وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : نزلت هذه الآية في شأن عائشة ، والحكم بها عام في كل من كان بالصفة التي وصفه الله بها فيها .

وإنما قلنا ذلك أولى تأويلاته بالصواب ; لأن الله عم بقوله : ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ) كل محصنة غافلة مؤمنة ، رماها رام بالفاحشة ، من غير أن يخص بذلك بعضا دون بعض ، فكل رام محصنة بالصفة التي ذكر الله جل ثناؤه في هذه الآية فملعون في الدنيا والآخرة ، وله عذاب عظيم ، إلا أن يتوب من ذنبه ذلك قبل وفاته ، فإن الله دل باستثنائه بقوله : ( إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ) على أن ذلك حكم رامي كل محصنة ، بأي صفة كانت المحصنة المؤمنة المرمية ، وعلى أن قوله : ( لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم ) معناه : لهم ذلك إن هلكوا ولم يتوبوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية