الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون

                                                                                                                                                                                                                                      ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير أمرهم الله سبحانه بتكميل الغير وإرشاده إثر أمرهم بتكميل النفس وتهذيبها بما قبله من الأوامر والنواهي تثبيتا للكل على مراعاة ما فيها من الأحكام بأن يقوم بعضهم بمواجبها ويحافظ على حقوقها وحدودها ويذكرها الناس كافة ويردعهم عن الإخلال بها، والجمهور على إسكان لام الأمر، وقرئ بكسرها على الأصل وهو من كان التامة، و "من" تبعيضية متعلقة بالأمر أو بمحذوف وقع حالا من الفاعل وهو "أمة" و "يدعون" صفتها، أي: لتوجد منكم أمة داعية إلى الخير، والأمة هي الجماعة التي يؤمها فرق الناس، أي: يقصدونها ويقتدون بها أو من الناقصة و "أمة" اسمها و"يدعون" خبرها، أي: لتكن منكم أمة داعين إلى الخير وأيا ما كان; فتوجيه الخطاب إلى الكل مع إسناد الدعوة إلى البعض لتحقيق معنى فرضيتها على الكفاية وأنها واجبة على الكل لكن بحيث إن أقامها البعض سقطت عن الباقين ولو أخل بها الكل أثموا جميعا لا بحيث يتحتم على الكل إقامتها على ما ينبئ عنه قوله عز وجل: وما كان المؤمنون لينفروا كافة الآية. ولأنها من عظائم الأمور وعزائمها التي لا يتولاها إلا العلماء بأحكامه تعالى ومراتب الاحتساب وكيفية إقامتها فإن من يعلمها يوشك أن يأمر بمنكر وينهى عن معروف ويغلظ في مقام اللين ويلين في مقام الغلظة وينكر على من لا يزيده الإنكار إلا التمادي والإصرار، وقيل: "من" بيانية كما في قوله تعالى: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم الآية. والأمر من كان الناقصة والمعنى: كونوا أمة يدعون الآية، كقوله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس الآية. ولا يقتضي ذلك كون الدعوة فرض عين فإن الجهاد من فروض الكفاية مع ثبوته بالخطابات العامة، والدعاء إلى الخير عبارة عن الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني أو دنيوي فعطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه بقوله تعالى: ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر مع اندراجهما فيه من باب عطف الخاص على العام لإظهار فضلهما وإنافتهما على سائر الخيرات كعطف جبريل وميكال على الملائكة عليهم السلام، وحذف المفعول الصريح من الأفعال الثلاثة إما للإيذان بظهوره، أي: يدعون الناس ويأمرونهم وينهونهم، [ ص: 68 ] وإما للقصد إلى إيجاد نفس الفعل كما في قولك: "فلان يعطي ويمنع" أي: يفعلون الدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأولئك إشارة إلى الأمة المذكورة باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الفاضلة وكمال تميزهم بذلك عمن عداهم وانتظامهم بسببه في سلك الأمور المشاهدة، وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم في الفضل، والإفراد في كاف الخطاب إما لأن المخاطب كل من يصلح للخطاب وإما لأن التعيين غير مقصود، أي: أولئك الموصوفون بتلك الصفات الكاملة. هم المفلحون أي: هم الأخصاء بكمال الفلاح، و "هم" ضمير فصل يفصل بين الخبر والصفة ويؤكد النسبة ويفيد اختصاص المسند بالمسند إليه أو مبتدأ خبره "المفلحون" والجملة خبر لـ "أولئك" وتعريف "المفلحون" إما للعهد أو للإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن خير الناس فقال: "آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم للرحم". وعنه عليه السلام: "من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه". وعنه عليه السلام: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم". وعن علي رضي الله عنه: "أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن شنأ الفاسقين وغضب لله غضب الله له"، والأمر بالمعروف في الوجوب والندب تابع للمأمور به، وأما النهي عن المنكر فواجب كله فإن جميع ما أنكره الشرع حرام، والعاصي يجب عليه النهي عما ارتكبه إذ يجب عليه تركه وإنكاره فلا يسقط بترك أحدهما وجوب شيء منهما. والتوبيخ في قوله تعالى: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم إنما هو على نسيان أنفسهم لا على أمرهم بالبر، وعن السلف: مروا بالخير وإن لم تفعلوا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية