الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما افتتحت السورة بأنه أنزل على أحسن الوجوه وأجملها وأعلاها وأبينها وأكملها من التفصيل، والجمع والبيان بهذا اللسان العظيم الشأن، فقالوا فيه ما وقعت هذه التسلية لأجله من قولهم قلوبنا في أكنة إلى آخره، وكان ربما قال قائل; لو كان بلسان غير العرب، وأعطى هذا النبي فهمه والقدرة وعلى تبيينه لكان أقوى في الإعجاز وأجدر بالاتباع، أخبر أن الأمر ليس كذلك، لأنهم لم يقولوا: هذا الشك حصل لهم في أمره، بل عنادا، والمعاند لا يرده شيء، فقال على سبيل التأكيد، معلما بأن الأمر على غير ما ظنه هذا الظان، وقال الأصبهاني: إنه جواب عن قولهم وقالوا قلوبنا في أكنة والأحسن عندي [ ص: 205 ] أن يكون عطفا على فصلت آياته قرآنا عربيا وبناه للمفعول لأنه بلسانهم فلم يحتج إلى تعيين المفصل، فيكون التقدير: فقد جعلناه عربيا معجزا، وهم أهل العلم باللسان، فأعرضوا عنه وقالوا فيه ما تقدم، ولفت القول عن وصف الإحسان الذي اقتضى أن يكون عربيا إلى مظهر العظمة الذي هو محط إظهار الاقتدار وإنفاذ الكلمة ولو جعلناه أي هذا الذكر بما لنا من العظمة والقدرة قرآنا أي على ما هو عليه من الجمع أعجميا أي لا يفصح وهو مع ذلك على وجه يناسب عظمتنا ليشهد كل أحد أنه معجز للعجم كما أن هذا معجز للعرب وأعطيناك فهمه والقدرة على إفهامهم إياه لقالوا أي هؤلاء المتعنتون فيه كما يقولون في هذا بغيا وتعنتا: لولا أي هلا ولم لا فصلت آياته أي بينت على طريقة نفهمها بلا كلفة ولا مبين، حال كونه قرآنا عربيا كما قدمنا أول السورة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما تبين بشاهد الوجود أنهم قالوا في العربي الصرف وبشهادة [ ص: 206 ] الحكيم الودود، وأنهم يقولون في الأعجمي الصرف، لم يبق إلا المختلط منهما المنقسم إليهما، فقال مستأنفا منكرا عليهم للعلم بأن ذلك منهم مجرد لدد لا طلبا للوقوف على سبيل الرشد: أعجمي أي أمطلوبكم أو مطلوبنا - على قراءة الخبر من غير استفهام - أعجمي وعربي مفصل باللسانين، والأعجمي كما قاله الرازي في اللوامع: الذي لا يفصح ولو كان عربيا والعجمي من العجم ولو تفاصح بالعربية.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان من الجائز أن يقولوا: نعم، ذلك مطلوبنا، وكان نزولا من الرتبة العليا إلى ما دونها مع أنه لا يجيب إلى المقترحات إلا مريد للعذاب، أو عاجز عن إنفاذ ما نريد، بين أن مراده نافذ من غير هذا فقال: قل هو أي هذا القرآن على ما هو عليه من العلو الذي لا يمكن أن يكون شيء يناظره للذين آمنوا أي أردنا وقوع الإيمان منهم هدى بيان لكل مطلوب وشفاء لما في صدروهم من داء الكفر والهواء والإفك فآذانهم به سميعة وقلوبهم له واعية وهو لهم بصائر قال القشيري فهو شفاء للعلماء حيث استراحوا عن كد الفكرة وتحير الخواطر وشفاء لضيق صدور المريدين بما فيه من التنعيم بقراءته والتلذذ بالتفكر فيه، ولقلوب المحبين من لواعج [ ص: 207 ] الاشتياق بما فيه من لطائف المواعيد، ولقلوب العارفين بما يتوالى عليها من أنوار التحقيق وآثار خطاب الرب العزيز والذين لا يؤمنون أي أردنا أنه لا يتجدد منهم إيمان في آذانهم وقر أي ثقل مذهب للسمع مصم، فهم لذلك لا يسمعون سماعا ينفعهم لأنهم بادروا إلى رده أول ما سمعوه وتكبروا عليه فصاروا لا يقدرون على تأمله فهزهم الكسل وأصمهم الفشل فعز عليهم فهمه وهو عليهم أي خاصة عمى مستعل على أبصارهم وبصائرهم لازم لهم، فهم لا يعونه حق الوعي، ولا يبصرون الداعي به حق الإبصار، فلهم به ضلال وداء، فلذلك قالوا ومن بيننا وبينك حجاب وذلك لما يحصل لهم من الشبه التي هيئت قلوبهم لقبولها، أو يتمادى بهم في الأوهام التي لا يألفون سوى فروعها وأصولها، فقد بان لأن سبب الوقر في آذانهم الحكم بعدم إيمانهم للحكم بإشقائهم، فالآية من الاحتباك: ذكر الهدى والشفاء أولا دليلا على الضلال والداء ثانيا، والوقر والعمى ثانيا دليلا على السمع والبصائر أولا، وسر ذلك أنه ذكر أمدح صفات المؤمنين وأذم صفات الكافرين، لأنه لا أحقر من أصم أعمى. [ ص: 208 ] ولما بان بهذا بعدهم عن عليائه وطردهم عن فنائه قال: أولئك أي البعداء البغضاء مثالهم مثال من ينادون أي يناديهم من يريد نداءهم غير الله من مكان بعيد فهم بحيث لا يتأبى سماعهم، وأما الأولون فهم ينادون بما هيئوا له من القبول من مكان قريب، فهذه هي القدرة الباهرة، وذلك أن شيئا واحدا يكون لناس في غاية القرب ولناس معهم في مكانهم في أنهى البعد.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية