الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2557 [ ص: 75 ] 9 - باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن بن علي : "إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين" . وقوله جل ذكره : فأصلحوا بينهما [الحجرات :9]

                                                                                                                                                                                                                              2704 - حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سفيان ، عن أبي موسى قال : سمعت الحسن يقول : استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال ، فقال عمرو بن العاص : إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها . فقال له معاوية -وكان والله خير الرجلين- : أي عمرو ، إن قتل هؤلاء هؤلاء ، وهؤلاء هؤلاء ، من لي بأمور الناس ؟ من لي بنسائهم ؟ من لي بضيعتهم ؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس : عبد الرحمن بن سمرة ، وعبد الله بن عامر بن كريز ، فقال : اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه ، وقولا له ، واطلبا إليه . فأتياه ، فدخلا عليه فتكلما ، وقالا له ، فطلبا إليه ، فقال لهما الحسن بن علي : إنا بنو عبد المطلب ، قد أصبنا من هذا المال ، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها . قالا فإنه يعرض عليك كذا وكذا ، ويطلب إليك ويسألك . قال : فمن لي بهذا ؟ قالا : نحن لك به . فما سألهما شيئا إلا قالا : نحن لك به . فصالحه . فقال الحسن : ولقد سمعت أبا بكرة يقول : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر ، والحسن بن علي إلى جنبه ، وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول : " إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" . قال لي علي بن عبد الله : إنما ثبت لنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث . [3629 ، 3746 ، 7109 - فتح: 5 \ 306]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق من حديث سفيان ، عن أبي موسى قال : سمعت الحسن يقول فذكره بطوله . وفي آخره "من المسلمين" .

                                                                                                                                                                                                                              قال البخاري : قال لي علي بن عبد الله المديني : إنما ثبت لنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 76 ] وقال البزار : حديث إسرائيل عن أبي موسى لا نعلمه رواه عنه إلا ابن عيينة . قلت : ذكره البخاري في علامات النبوة عن عبد الله بن محمد ، ثنا يحيى بن آدم ، ثنا حسين الجعفي عن أبي موسى ، عن الحسن ، عن أبي بكرة . . الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              قال البزار أيضا : والحديث روي عن جابر وأبي بكرة ، وحديث أبي بكرة أشهر وأحسن إسنادا ، وحديث جابر أغرب .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : وذكره ابن بطال من حديث المغيرة بن شعبة كما سيأتي ، وزعم الدارقطني أن الحسن رواه أيضا عن أم سلمة ، قال : وهذه الرواية وهم ، ورواه داود بن رشيد ، وعوف الأعرابي عن الحسن مرسلا .

                                                                                                                                                                                                                              قال : ورواه أحمد بن عبد الله النهرواني ، عن ابن عيينة ، عن أيوب ، عن الحسن ، ووهم فيه .

                                                                                                                                                                                                                              ومن أوهام الداودي قوله : الحسن مع قربه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي وهو ابن سبع سنين ، لا يشك في سماعه منه ، وأنه تعدله الصحبة ، وهو

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 77 ] عجيب . فالحسن هذا الذي أراده البخاري هو ابن أبي الحسن البصري في سماعه من أبي بكرة ، فإنه رواه عنه .

                                                                                                                                                                                                                              وأبو موسى الراوي عن الحسن هو إسرائيل (خ . ت . د . س ) بن موسى البصري ، نزل الهند ، عنه ابن عيينة ، وحسين الجعفي ، قاله مسلم في كناه ، وانفرد به البخاري . قال أحمد : هو مقارب الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك فالفئة : الفرقة ، مأخوذ من فأوت رأسه ، وفأيته .

                                                                                                                                                                                                                              والكتيبة : ما جمع بعضها إلى بعض ، ومنه قيل للقطعة المجتمعة من الجيش : كتيبة . وقال الداودي : سميت بذلك ; لأنه يكتب اسم كل طائفة في كتاب فلزمها هذا الاسم .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (أمثال الجبال ) أي : لا يرى لها طرف لكثرتها ، كما لا يرى من قابل الجبل طرفيه . والحسن لما مات علي بايع له أهل العراق وكانوا له أمثال أهل الشام لمعاوية .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر أهل الأخبار فيما حكاه ابن بطال أن عليا لما مات بايع أهل الكوفة ابنه الحسن ، وبايع أهل الشام معاوية ، فسار معاوية بأهل الشام يريد الكوفة ، وسار الحسن بأهل العراق فالتقيا بمنزل من أرض الكوفة ، فنظر الحسن إلى كثرة من معه من جيوش العراق فنادى : يا معاوية ، إني اخترت ما عند الله ، فإن يكن هذا الأمر لك فما ينبغي لي أن أنازعك عليه ، وإن يكن لي فقد خلعته لك . فكبر أصحاب معاوية . وقال المغيرة بن شعبة عند ذلك أشهد أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول للحسن : "إن ابني هذا سيد سيصلح الله به بين فئتين من المسلمين" ، فجزاك الله عن المسلمين خيرا . وقال الحسن : اتق الله يا معاوية على أمة محمد لا تفنيهم بالسيف على طلب الدنيا ، وغرور فانية زائلة ،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 78 ] فسلم الحسن الأمر إلى معاوية وصالحه ، وبايعه على السمع والطاعة على إقامة كتاب الله وسنة نبيه ، ثم دخلا الكوفة فأخذ معاوية البيعة لنفسه على أهل العراقين ، فكانت تلك السنة سنة الجماعة ، لاجتماع الناس واتفاقهم ، وانقطاع الحرب ، وبايع معاوية كل من كان معتزلا عنه ، وبايعه سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة ، وتباشر الناس بذلك ، وأجاز معاوية الحسن بثلاثمائة ألف وألف ثوب وثلاثين عبدا ، ومائة جمل ، وانصرف الحسن إلى المدينة . وولى معاوية الكوفة المغيرة بن شعبة ، وولى البصرة عبد الله بن عامر ، وانصرف إلى دمشق واتخذها دار مملكته .

                                                                                                                                                                                                                              وقول عمرو بن العاصي : (إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها ) أي : إن قوتلت بغير حيلة غلبت لكثرتها .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (فقال له معاوية ، وهو خير الرجلين : أي عمرو ) إلى آخره .

                                                                                                                                                                                                                              يقول : لما أشار إليه عمرو فهمها وسارع إليها ، وعرف ما فيها من الصلاح فراسل الحسن ، ومراده أن معاوية كان خيرا من عمرو بن العاصي .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (إن قتل هؤلاء هؤلاء ) يدل على نظر معاوية في العواقب ورغبته في صرف الحرب .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (اذهبا إلى هذا الرجل واطلبا إليه واعرضا عليه ) يدل على أن معاوية كان الراغب في الصلح ، وأنه عرض المال على الحسن وبذله ورغبه ; حقنا للدماء وحرصا على رفع سيف الفتنة وعرفه ما وعده به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سيادته والإصلاح به .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 79 ] فقال له الحسن : إنا بنو عبد المطلب المجبولون على الكرم والتوسع لمن حوالينا من الأهل والموالي ، وقد أصبنا من هذا المال بالخلافة ما صارت لنا به عادة إنفاق وإفضال على الأهل والحاشية ، فإن تخلفت من هذا الأمر قطعنا العادة ، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها . يقول : قتل بعضها بعضا فلا يكفون إلا بالمال . فأراد أن يسكن أمر الفتنة ويفرق المال فيما لا يرضيه غير المال ، فقالا : يفرض له من المال في كل عام كذا ، ومن الأقوات والثياب ما يحتاج إليه لكل ما ذكرت ، فصالحه على ذلك . وبنو عبد شمس منهم بنو أمية .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : أن الرسل لا تهاج ويسمع قولها .

                                                                                                                                                                                                                              وقول الحسن : (أصبنا من هذا المال ) أي : حكمنا فيه حياة علي وبعده بما رأيناه صلاحا ، وخشي أن يتثاقل عليه فيضمن ، فضمن له الرجلان ذلك ، وأنه لا يطالب فقبل منهما لعلمه أن معاوية لا يخالفهما ، واشترط شروطا وسلم الأمر إلى معاوية .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : ولاية المفضول على الفاضل ; لأن الحسن ومعاوية وليا وسعد وسعيد حيان ، وهما بدريان .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : أن التصالح على الخلافة والعهد بها على أخذ مال جائز ، وكذلك هو جائز إذا كان كل واحد منهما له سبب في الخلافة يستند إليه ، وعقد من الإمارة يعود عليه . ذكره ابن بطال .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : أن قتال المسلم للمسلم لا يخرجه عن الإسلام إذا كان على تأويل .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 80 ] وقوله : ("إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار" ) المراد : إن أنفذ الله عليهما الوعيد .

                                                                                                                                                                                                                              و (السيد ) : الرئيس . قال كراع : وجمعه سادة . وعندي أن سادة جمع سائد وهو من السؤدد وهو الشرف . قال ابن سيده : وقد يهمز وبضم الدال ، طائية ، وقد سادهم سودا وسؤددا وسيادة وسيدودة ، واستادهم كسادهم وسوده هو .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الزبيدي في "طبقات النحاة" : أن محمدا الأعرابي العذري قال لإبراهيم بن الحجاج الثائر بإشبيلية : تالله أيها الأمير ما سيدتك العرب إلا بحقك . يقولها بالياء ، فلما أنكر عليه قال : السواد : السخام . وأصر على أن الصواب معه ، ومالأه على ذلك الأمير لعظم منزلته في العلم . وقيل : اشتقاق السيد من السواد أي : الذي يلي السواد العظيم من الناس .

                                                                                                                                                                                                                              قال المهلب : والحديث قال على أن السيادة إنما يستحقها من ينتفع به الناس ; لأنه - عليه السلام - علق السيادة بالإصلاح بين الناس ونفعهم ، هذا معنى السيادة .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ("ابني هذا سيد" ) هو من قوله تعالى : وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم [النساء : 23] ، وقوله : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء [النساء : 22] .

                                                                                                                                                                                                                              اتفق الجميع على أن امرأة الجد أبي الأم محرمة على ابن البنت ، وأن امرأة ابن البنت محرمة على جده .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية