الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما أمر سبحانه بإجلال رسوله صلى الله عليه وسلم وإعظامه، ونهى عن أذاه في نفسه أو في أمته، ونهى عن التفاخر الذي هو سبب التقاطع والتداحر، وختم بصفة الخبر، دل عليها بقوله [مشيرا] إلى أنه لا يعتد بشيء مما أمر به أو نهى عنه إلا مع الإخلاص فقال: قالت الأعراب أي: أهل البادية من بني أسد وغيرهم الذين هم معدن الغلظة [والجفاء] الذين تقدم تأديبهم في سورة الفتح، وألحق التاء في فعلهم إشارة إلى ضعفهم في العزائم، قال ابن برجان: هم قوم شهدوا شهادة الحق وهم لا يعلمون ما شهدوا به غير أن أنفسهم [ليست] تنازعهم إلى التكذيب: آمنا [أي] بجميع ما جئت به فامتثلنا ما أمرنا به في هذه السورة ولنا النسب الخالص، فنحن أشرف من غيرنا من أهل المدر.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الإيمان التصديق بالقلب فلا اطلاع عليه لآدمي إلا بإطلاعه سبحانه فكانوا كاذبين في دعواه، قال: قل أي: تكذيبا لهم مع مراعاة الأدب في عدم التصريح بالتكذيب: لم تؤمنوا أي: لم تصدق قلوبكم؛ لأنكم لو آمنتم لم تمنوا بإيمانكم؛ لأن الإيمان التصديق بجميع [ ص: 386 ] ما لله من الكمال الذي منه أنه لولا منه بالهداية لم يحصل الإيمان، فله ولرسوله - الذي كان ذلك على يديه - المن والفضل.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان التقدير ما كان الأصل في أن يكون الرد به وهو: فلا تقولوا: آمنا، فإنه كذب، وعدل عنه للاحتراز عن النهي عن القول بالإيمان، عطف عليه قوله: ولكن قولوا لأنكم أسلمتم للدنيا لا للدين، وعدل عنه لئلا تكون شهادة لهم بالإسلام في الجملة: أسلمنا أي: أظهرنا الانقياد في الظاهر للأحكام الظاهرة فأمنا من أن نكون حزبا للمؤمنين وعونا للمشركين، يقول: أسلم الرجل: إذا دخل في السلم، كما يقال: أشتى، إذا دخل في الشتاء، ولم يقل: ولكن أسلمتم، لما فيه من الشهادة لهم بالإسلام الملازم للإيمان المنفي عنه، فكان يكون تناقضا، والآية من الاحتباك: نفي الإيمان الشرعي أولا يدل على إثبات الإسلام اللغوي ثانيا، [والأمر بالقول بالإسلام] ثانيا يدل على النهي عن القول بالإيمان [أولا].

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت "لم" غير مستغرقة، عطف عليها ما يستغرق ما مضى من الزمان كله ليكون الحكم بعدم إيمانهم مكتنفا بأمرهم بالاقتصاد على الإخبار بإسلامهم، فقال معلما بأن ما يجتهدون في إخفائه منكشف لديه: ألا يعلم من خلق ولما يدخل [أي] إلى هذا الوقت [ ص: 387 ] الإيمان [أي] المعرفة التامة في قلوبكم فلا يعد إقرار اللسان إيمانا إلا بمواطأة القلب، فعصيتم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأحبطتم أعمالكم، والتعبير ب "لما" يفهم أنهم آمنوا بعد ذلك، ويجوز أن يكون المراد بهذا النفي نفي التمكن في القلب، لا نفي مطلق الدخول بدليل: إنما المؤمنون دون "إنما الذين آمنوا".

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان التقدير: فإن تؤمنوا يعلم الله ذلك من قلوبكم غنيا عن قولكم، عطف عليه قوله ترغيبا لهم في التوبة: وإن تطيعوا الله أي: الملك الذي من خالفه لم يأمن عقوبته ورسوله الذي طاعته من طاعته على ما أنتم عليه من الأمر الظاهري فتؤمن قلوبكم لا يلتكم أي: ينقصكم ويبخسكم من لاته يليته، وهي لغة أهل الحجاز، وقرأ البصريان: "يألتكم" من الألت وهو النقص أيضا، وهي لغة أسد وغطفان، وهما المخاطبون بهذه الآية المعاتبون بها، قال أبو حيان : قال مجاهد : نزلت في [بني] أسد بن خزيمة. انتهى. فلذلك اختار أبو عمرو القراءة بها، وعدل عن لغة الحجاز.

                                                                                                                                                                                                                                      من أعمالكم شيئا فلا حاجة إلى إخباركم عن إيمانكم بغير ما يدل عليه من الأقوال والأفعال، قال ابن برجان : فعموم الناس وأكثر أهل الغفلة مسلمون غير مؤمنين، فإن يعلموا علم ما شهدوا وعقدوا عليه عقدا علما ويقينا فهم المؤمنون. وفي الآية احتباك من [ ص: 388 ] وجه آخر: ذكر عدم الإيمان أولا دليلا على إثباته ثانيا، وذكر توفير الأعمال ثانيا دليلا على بخسها أو إحباطها أولا، وسره أنه نفى أساس الخير أولا ورغب في الطاعة بحفظ ما تعبوا [عليه] من الأعمال ثانيا.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الإنسان مبنيا على النقصان، فلو وكل إلى عمله هلك، ولذهب عمله فيما يعتريه من النقص، قال مستعطفا [لهم] إلى التوبة، مؤكدا تنبيها على أنه مما يحق تأكيده [لأن الخلائق] لا يفعلون مثله: إن الله أي: الذي له صفات الكمال غفور أي: ستور للهفوات والزلات لمن تاب وصحت نيته، ولغيره إذا أراد، فلا عتاب ولا عقاب رحيم أي: يزيد على الستر عظيم الإكرام.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية