الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 23 ] يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم .

استئناف من التشريع المقصود من هذه السورة . وعلامة الاستئناف افتتاحه بـ ( يا أيها الذين آمنوا ) ومناسبته لما قبله أن أحكام المواريث والنكاح اشتملت على أوامر بإيتاء ذي الحق في المال حقه ، كقوله وآتوا اليتامى أموالهم وقوله : فآتوهن أجورهن فريضة وقوله : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا الآية ، فانتقل من ذلك إلى تشريع عام في الأموال والأنفس .

وقد تقدم أن الأكل مجاز في الانتفاع بالشيء انتفاعا تاما ، لا يعود معه إلى الغير ، فأكل الأموال هو الاستيلاء عليها بنية عدم إرجاعها لأربابها ، وغالب هذا المعنى أن يكون استيلاء ظلم ، وهو مجاز صار كالحقيقة . وقد يطلق على الانتفاع المأذون فيه كقوله تعالى : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وقوله : ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ، ولذلك غلب تقييد المنهي عنه من ذلك بقيد ( بالباطل ) ونحوه .

والضمير المرفوع بـ ( تأكلوا ) والضمير المضاف إليه ( أموال ) : راجعان إلى الذين آمنوا ، وظاهر أن المرء لا ينهى عن أكل مال نفسه ، ولا يسمى انتفاعه بماله أكلا ، فالمعنى : لا يأكل بعضهم مال بعض . والباطل ضد الحق ، وهو ما لم يشرعه الله ولا كان عن إذن منه ، والباء فيه للملابسة .

والاستثناء في قوله : إلا أن تكون تجارة منقطع ، لأن التجارة ليست من أكل الأموال بالباطل ، فالمعنى : لكن كون التجارة غير منهي عنه . وموقع المنقطع هنا بين جار على الطريقة العربية ، إذ ليس يلزم في الاستدراك شمول الكلام السابق للشيء المستدرك ولا يفيد الاستدراك حصرا ، ولذلك فهو مقتضى الحال ، ويجوز أن يجعل قيد الباطل في حالة الاستثناء ملغى ، فيكون استثناء من أكل الأموال ويكون متصلا ، وهو يقتضي أن الاستثناء قد حصر إباحة أكل الأموال في التجارة ، وليس كذلك ، وأيا ما كان الاستثناء فتخصيص التجارة بالاستدراك أو بالاستثناء لأنها أشد أنواع أكل الأموال [ ص: 24 ] شبها بالباطل ، إذ التبرعات كلها أكل أموال عن طيب نفس ، والمعاوضات غير التجارات كذلك ، لأن أخذ كلا المتعاوضين عوضا عما بذله للآخر مساويا لقيمته في نظره يطيب نفسه . وأما التجارة فلأجل ما فيها من أخذ المتصدي للتجر مالا زائدا على قيمة ما بذله للمشتري قد تشبه أكل المال بالباطل فلذلك خصت بالاستدراك أو الاستثناء . وحكمة إباحة أكل المال الزائد فيها أن عليها مدار رواج السلع الحاجية والتحسنية ، ولولا تصدي التجار وجلبهم السلع لما وجد صاحب الحاجة ما يسد حاجته عند الاحتياج . ويشير إلى هذا ما في الموطأ عن عمر بن الخطاب أنه قال في احتكار الطعام : ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء ويمسك كيف شاء .

وقرأ الجمهور : إلا أن تكون تجارة برفع ( تجارة ) على أنه فاعل لكان من كان التامة ، أي تقع . وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف بنصب ( تجارة ) على أنه خبر كان الناقصة ، وتقدير اسمها : إلا أن تكون الأموال تجارة ، أي أموال تجارة .

وقوله : عن تراض منكم صفة لـ " تجارة " ، و ( عن ) فيه للمجاوزة ، أي صادرة عن التراضي وهو الرضا من الجانبين بما يدل عليه من لفظ أو عرف . وفي الآية ما يصلح أن يكون مستندا لقول مالك من نفي خيار المجلس ؛ لأن الله جعل مناط الانعقاد هو التراضي ، والتراضي يحصل عند التبايع بالإيجاب والقبول .

وهذه الآية أصل عظيم في حرمة الأموال ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس . وفي خطبة حجة الوداع إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام .

وتقديم النهي عن أكل الأموال على النهي عن قتل الأنفس ، مع أن الثاني أخطر ، إما لأن مناسبة ما قبله أفضت إلى النهي عن أكل الأموال فاستحق التقديم لذلك ، وإما لأن المخاطبين كانوا قريبي عهد بالجاهلية ، وكان أكل الأموال أسهل عليهم ، وهم أشد استخفافا به منهم بقتل الأنفس ، لأنه كان يقع في مواقع الضعف حيث لا يدفع صاحبه عن نفسه كاليتيم والمرأة والزوجة . فآكل أموال هؤلاء في مأمن من التبعات [ ص: 25 ] بخلاف قتل النفس ، فإن تبعاته لا يسلم منها أحد ، وإن بلغ من الشجاعة والعزة في قومه كل مبلغ ، ولا أمنع من كليب وائل ، لأن القبائل ما كانت تهدر دماء قتلاها .

التالي السابق


الخدمات العلمية