[ ص: 139 ] nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=83nindex.php?page=treesubj&link=28975_30563_30569وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا .
عطف على جملة
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=81ويقولون طاعة فضمير الجمع راجع إلى الضمائر قبله ، العائدة إلى المنافقين ، وهو الملائم للسياق ، ولا يعكر عليه إلا قوله وإلى أولي الأمر منهم ، وستعلم تأويله ، وقيل : الضمير هذا راجع إلى فريق من ضعفة المؤمنين : ممن قلت تجربته وضعف جلده ، وهو المناسب لقوله وإلى أولي الأمر منهم بحسب الظاهر ، فيكون معاد الضمير محذوفا من الكلام اعتمادا على قرينة حال النزول ، كما في قوله حتى توارت بالحجاب .
والكلام مسوق مساق التوبيخ للمنافقين واللوم لمن يقبل مثل تلك الإذاعة ، من المسلمين الأغرار .
ومعنى "
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=83جاءهم أمر " أي أخبروا به ، قال
امرؤ القيس :
وذلك من نبأ جاءني فالمجيء مجاز عرفي في سماع الأخبار ، مثل نظائره ، وهي : بلغ ، وانتهى إليه ، وأتاه ، قال
النابغة :
أتأني - أبيت اللعن أنك - لمتني والأمر هنا بمعنى الشيء ، وهو هنا الخبر ، بقرينة قوله أذاعوا به .
ومعنى " أذاعوا " : أفشوا ، ويتعدى إلى الخبر بنفسه ، وبالباء ، يقال : أذاعه وأذاع به ، فالباء لتوكيد اللصوق كما في وامسحوا برءوسكم .
والمعنى إذا سمعوا خبرا عن سرايا المسلمين من الأمن ، أي الظفر الذي يوجب أمن المسلمين أو الخوف وهو ما يوجب خوف المسلمين ، أي اشتداد العدو عليهم ،
[ ص: 140 ] بادروا بإذاعته ، أو إذا سمعوا خبرا عن الرسول - عليه السلام - وعن أصحابه ، في تدبير أحوال المسلمين من أحوال الأمن أو الخوف ، تحدثوا بتلك الأخبار في الحالين ، وأرجفوها بين الناس لقصد التثبيط عن الاستعداد ، إذا جاءت أخبار أمن حتى يؤخذ المؤمنون وهم غارون ، وقصد التجبين إذا جاءت أخبار الخوف ، واختلاف المعاذير للتهيئة للتخلف عن الغزو إذا استنفروا إليه ، فحذر الله المؤمنين من مكائد هؤلاء ، ونبه هؤلاء على دخيلتهم ، وقطع معذرتهم في كيدهم بقوله ولو ردوه إلى الرسول إلخ ، أي لولا أنهم يقصدون السوء لاستثبتوا الخبر من الرسول ومن أهل الرأي .
وعلى القول بأن الضمير راجع إلى المؤمنين فالآية عتاب للمؤمنين في هذا التسرع بالإذاعة ، وأمرهم بإنهاء الأخبار إلى الرسول وقادة الصحابة ليضعوه مواضعه ويعلموهم محامله .
وقيل : كان المنافقون يختلقون الأخبار من الأمن أو الخوف ، وهي مخالفة للواقع ، ليظن المسلمون الأمن حين الخوف فلا يأخذوا حذرهم ، أو الخوف حين الأمن فتضطرب أمورهم وتختل أحوال اجتماعهم ، فكان دهماء المسلمين إذا سمعوا ذلك من المنافقين راج عندهم فأذاعوا به .
فتم للمنافقين الدست ، وتمشت المكيدة ، فلامهم الله وعلمهم أن ينهوا الأمر إلى الرسول وجلة أصحابه قبل إشاعته ليعلموا كنه الخبر وحاله من الصدق أو الكذب ، ويأخذوا لكل حالة حيطتها ، فيسلم المؤمنون من مكر المنافقين الذي قصدوه . وهذا بعيد من قوله " جاءهم " وعلى هذا فقوله " لعلمه " هو دليل جواب " لو " وعلته ، فجعل عوضه وحذف المعلول ، إذ ا لمقصود لعلمه الذين يستنبطونه من أولي الأمر فلبينوه لهم على وجهه .
ويجوز أن يكون المعنى : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلم ذلك المنافقون الذين اختلقوا الخبر فلخابوا إذ يوقنون بأن حيلتهم لم تتمش على المسلمين ، فيكون الموصول صادقا على المختلقين بدلالة المقام ، ويكون ضمير " منهم " الثاني عائدا على المنافقين بقرينة المقام .
والرد حقيقته إرجاع شيء إلى ما كان فيه من مكان أو يد ، واستعمل هنا مجازا في إبلاغ الخبر إلى أولى الناس بعلمه . وأولو الأمر هم كبراء المسلمين وأهل الرأي
[ ص: 141 ] منهم ، فإن كان المتحدث عنهم المنافقين فوصف أولي الأمر بأنهم منهم جار على ظاهر الأمر وإرخاء العنان ، أي أولو الأمر الذين يجعلون أنفسهم بعضهم ; وإن كان المتحدث عنهم المؤمنين ، فالتبعيض ظاهر .
والاستنباط حقيقته طلب النبط بالتحريك . وهو أول الماء الذي يخرج من البئر عند الحفر ، وهو هنا مجاز في العلم بحقيقة الشيء ومعرفة عواقبه ، وأصله مكنية : شبه الخبر الحادث بحفير يطلب منه الماء ، وذكر الاستنباط تخييل . وشاعت هذه الاستعارة حتى صارت حقيقة عرفية ، فصار الاستنباط بمعنى التفسير والتبيين ، وتعدية الفعل إلى ضمير الأمر على اعتبار المعنى العرفي ، ولولا ذلك لقيل : يستنبطون منه ، كما هو ظاهر ، أو هو على نزع الخافض .
وإذا جريت على احتمال كون ( يستنبطون ) بمعنى يختلقون كما تقدم كانت " يستنبطونه " تبعية ، بأن شبه الخبر المختلق بالماء المحفور عنه ، وأطلق يستنبطون بمعنى يختلقون ، وتعدى الفعل إلى ضمير الخبر لأنه المستخرج . والعرب يكثرون الاستعارة من أحوال المياه كقولهم : يصدر ويورد ، وقولهم ضرب أخماسا لأسداس ، وقولهم : ينزع إلى كذا ، وقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=59فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم ، وقال
عبدة بن الطبيب :
فحق لشأس من نداك ذنوب
ومنه قولهم : تساجل القوم ، أصله من السجل ، وهو الدلو .
وقال
قيس بن الخطيم : إذا ما اصطبحت أربعا خط مئزري وأتبعت دلوي في السماح رشاءها
فذكر الدلو والرشاء . وقال
النابغة :
خطاطيف حجن في حبال متينة تمد بها أيد إليك نوازع
وقال :
ولولا أبو الشقراء ما زال ماتح يعالج خطافا بإحدى الجرائر
[ ص: 142 ]
وقالوا أيضا " انتهز الفرصة " ، والفرصة نوبة الشرب ، وقالوا : صدر القوم عن رأي فلان ووردوا على رأيه .
وقوله " منهم " وصف للذين يستنبطونه ، وهم خاصة أولي الأمر من المسلمين ، أي يردونه إلى جماعة أولي الأمر فيفهمه الفاهمون من أولي الأمر ، وإذا فهمه جميعهم فأجدر .
وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=83nindex.php?page=treesubj&link=28975_29703ولولا فضل الله عليكم ورحمته امتنان بإرشادهم إلى أنواع المصالح ، والتحذير من المكائد ومن حبائل الشيطان وأنصاره .
واستثناء " إلا قليلا " من عموم الأحوال المؤذن بها " اتبعتم " ، أي إلا في أحوال قليلة ، فإن كان المراد من فضل الله ورحمته ما يشمل البعثة فما بعدها ، فالمراد بالقليل الأحوال التي تنساق إليها النفوس في بعض الأحوال بالوازع العقلي أو العادي ، وإن أريد بالفضل والرحمة النصائح والإرشاد فالمراد بالقليل ما هو معلوم من قواعد الإسلام . ولك أن تجعله استثناء من ضمير " اتبعتم " أي إلا قليلا منكم ، فالمراد من الاتباع اتباع مثل هذه المكائد التي لا تروج على أهل الرأي من المؤمنين .
[ ص: 139 ] nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=83nindex.php?page=treesubj&link=28975_30563_30569وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا .
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=81وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَضَمِيرُ الْجَمْعِ رَاجِعٌ إِلَى الضَّمَائِرِ قَبْلَهُ ، الْعَائِدَةِ إِلَى الْمُنَافِقِينَ ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِلسِّيَاقِ ، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ إِلَّا قَوْلُهُ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ، وَسَتَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ ، وَقِيلَ : الضَّمِيرُ هَذَا رَاجَعٌ إِلَى فَرِيقٍ مِنْ ضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ : مِمَّنْ قَلَّتْ تَجْرِبَتُهُ وَضَعُفَ جَلَدُهُ ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ ، فَيَكُونُ مَعَادُ الضَّمِيرِ مَحْذُوفًا مِنَ الْكَلَامِ اعْتِمَادًا عَلَى قَرِينَةِ حَالِ النُّزُولِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ .
وَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّوْبِيخِ لِلْمُنَافِقِينَ وَاللَّوْمِ لِمَنْ يَقْبَلُ مِثْلَ تِلْكَ الْإِذَاعَةِ ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْأَغْرَارِ .
وَمَعْنَى "
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=83جَاءَهُمْ أَمْرٌ " أَيْ أُخْبِرُوا بِهِ ، قَالَ
امْرُؤُ الْقَيْسِ :
وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءَنِي فَالْمَجِيءُ مَجَازٌ عُرْفِيٌّ فِي سَمَاعِ الْأَخْبَارِ ، مِثْلُ نَظَائِرِهِ ، وَهِيَ : بَلَغَ ، وَانْتَهَى إِلَيْهِ ، وَأَتَاهُ ، قَالَ
النَّابِغَةُ :
أَتَأْنِي - أَبَيْتَ اللَّعْنَ أَنَّكَ - لُمْتَنِي وَالْأَمْرُ هُنَا بِمَعْنَى الشَّيْءِ ، وَهُوَ هُنَا الْخَبَرُ ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ أَذَاعُوا بِهِ .
وَمَعْنَى " أَذَاعُوا " : أَفْشَوْا ، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْخَبَرِ بِنَفْسِهِ ، وَبِالْبَاءِ ، يُقَالُ : أَذَاعَهُ وَأَذَاعَ بِهِ ، فَالْبَاءُ لِتَوْكِيدِ اللُّصُوقِ كَمَا فِي وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ .
وَالْمَعْنَى إِذَا سَمِعُوا خَبَرًا عَنْ سَرَايَا الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَمْنِ ، أَيِ الظَّفَرِ الَّذِي يُوجِبُ أَمْنَ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْخَوْفَ وَهُوَ مَا يُوجِبُ خَوْفَ الْمُسْلِمِينَ ، أَيِ اشْتِدَادَ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ ،
[ ص: 140 ] بَادَرُوا بِإِذَاعَتِهِ ، أَوْ إِذَا سَمِعُوا خَبَرًا عَنِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَنْ أَصْحَابِهِ ، فِي تَدْبِيرِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَحْوَالِ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ ، تَحَدَّثُوا بِتِلْكَ الْأَخْبَارِ فِي الْحَالَيْنِ ، وَأَرْجَفُوهَا بَيْنَ النَّاسِ لِقَصْدِ التَّثْبِيطِ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ ، إِذَا جَاءَتْ أَخْبَارُ أَمْنٍ حَتَّى يُؤْخَذَ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ غَارُّونَ ، وَقَصْدِ التَّجْبِينِ إِذَا جَاءَتْ أَخْبَارُ الْخَوْفِ ، وَاخْتِلَافِ الْمَعَاذِيرِ لِلتَّهْيِئَةِ لِلتَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ إِذَا اسْتُنْفِرُوا إِلَيْهِ ، فَحَذَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَائِدِ هَؤُلَاءِ ، وَنَبَّهَ هَؤُلَاءِ عَلَى دَخِيلَتِهِمْ ، وَقَطْعِ مَعْذِرَتِهِمْ فِي كَيْدِهِمْ بِقَوْلِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ إِلَخْ ، أَيْ لَوْلَا أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ السُّوءَ لَاسْتَثْبَتُوا الْخَبَرَ مِنَ الرَّسُولِ وَمِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ .
وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فَالْآيَةُ عِتَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا التَّسَرُّعِ بِالْإِذَاعَةِ ، وَأَمْرُهُمْ بِإِنْهَاءِ الْأَخْبَارِ إِلَى الرَّسُولِ وَقَادَةِ الصَّحَابَةِ لِيَضَعُوهُ مَوَاضِعَهُ وَيُعَلِّمُوهُمْ مَحَامِلَهُ .
وَقِيلَ : كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَخْتَلِقُونَ الْأَخْبَارَ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْوَاقِعِ ، لِيَظُنَّ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْنَ حِينَ الْخَوْفِ فَلَا يَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ ، أَوِ الْخَوْفَ حِينَ الْأَمْنِ فَتَضْطَرِبُ أُمُورُهُمْ وَتَخْتَلُّ أَحْوَالُ اجْتِمَاعِهِمْ ، فَكَانَ دَهْمَاءُ الْمُسْلِمِينَ إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ رَاجَ عِنْدَهُمْ فَأَذَاعُوا بِهِ .
فَتَمَّ لِلْمُنَافِقِينَ الدَّسْتُ ، وَتَمَشَّتِ الْمَكِيدَةُ ، فَلَامَهُمُ اللَّهُ وَعَلَّمَهُمْ أَنْ يُنْهُوا الْأَمْرَ إِلَى الرَّسُولِ وَجِلَّةِ أَصْحَابِهِ قَبْلَ إِشَاعَتِهِ لِيَعْلَمُوا كُنْهَ الْخَبَرِ وَحَالَهُ مِنَ الصِّدْقِ أَوِ الْكَذِبِ ، وَيَأْخُذُوا لِكُلِّ حَالَةٍ حَيْطَتَهَا ، فَيَسْلَمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ مَكْرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِي قَصَدُوهُ . وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ قَوْلِهِ " جَاءَهُمْ " وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ " لَعَلِمَهُ " هُوَ دَلِيلُ جَوَابِ " لَوْ " وَعِلَّتُهُ ، فَجُعِلَ عِوَضَهُ وَحُذِفَ الْمَعْلُولُ ، إِذِ ا لْمَقْصُودُ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ فَلَبَيَّنُوهُ لَهُمْ عَلَى وَجْهِهِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى : وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَ ذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ اخْتَلَقُوا الْخَبَرَ فَلَخَابُوا إِذْ يُوقِنُونَ بِأَنَّ حِيلَتَهُمْ لَمْ تَتَمَشَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَيَكُونُ الْمَوْصُولُ صَادِقًا عَلَى الْمُخْتَلِقِينَ بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ ، وَيَكُونُ ضَمِيرُ " مِنْهُمْ " الثَّانِي عَائِدًا عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ .
وَالرَّدُّ حَقِيقَتُهُ إِرْجَاعُ شَيْءٍ إِلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ مَكَانٍ أَوْ يَدٍ ، وَاسْتُعْمِلَ هُنَا مَجَازًا فِي إِبْلَاغِ الْخَبَرِ إِلَى أَوْلَى النَّاسِ بِعِلْمِهِ . وَأُولُو الْأَمْرِ هُمْ كُبَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلُ الرَّأْيِ
[ ص: 141 ] مِنْهُمْ ، فَإِنْ كَانَ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمُ الْمُنَافِقِينَ فَوَصْفُ أُولِي الْأَمْرِ بِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ جَارٍ عَلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ وَإِرْخَاءِ الْعِنَانِ ، أَيْ أُولُو الْأَمْرِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ أَنْفُسَهُمْ بَعْضَهُمْ ; وَإِنْ كَانَ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمُ الْمُؤْمِنِينَ ، فَالتَّبْعِيضُ ظَاهِرٌ .
وَالِاسْتِنْبَاطُ حَقِيقَتُهُ طَلَبُ النَّبَطِ بِالتَّحْرِيكِ . وَهُوَ أَوَّلُ الْمَاءِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْبِئْرِ عِنْدَ الْحَفْرِ ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ وَمَعْرِفَةِ عَوَاقِبِهِ ، وَأَصْلُهُ مَكْنِيَّةٌ : شَبَّهَ الْخَبَرَ الْحَادِثَ بِحَفِيرٍ يُطْلَبُ مِنْهُ الْمَاءُ ، وَذِكْرُ الِاسْتِنْبَاطِ تَخْيِيلٌ . وَشَاعَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ حَتَّى صَارَتْ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً ، فَصَارَ الِاسْتِنْبَاطُ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ وَالتَّبْيِينِ ، وَتَعْدِيَةِ الْفِعْلِ إِلَى ضَمِيرِ الْأَمْرِ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقِيلَ : يَسْتَنْبِطُونَ مِنْهُ ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ ، أَوْ هُوَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ .
وَإِذَا جَرَيْتَ عَلَى احْتِمَالِ كَوْنِ ( يَسْتَنْبِطُونَ ) بِمَعْنَى يَخْتَلِقُونَ كَمَا تَقَدَّمَ كَانَتْ " يَسْتَنْبِطُونَهُ " تَبَعِيَّةً ، بِأَنْ شَبَّهَ الْخَبَرَ الْمُخْتَلَقَ بِالْمَاءِ الْمَحْفُورِ عَنْهُ ، وَأَطْلَقَ يَسْتَنْبِطُونَ بِمَعْنَى يَخْتَلِقُونَ ، وَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى ضَمِيرِ الْخَبَرِ لِأَنَّهُ الْمُسْتَخْرَجُ . وَالْعَرَبُ يُكْثِرُونَ الِاسْتِعَارَةَ مِنْ أَحْوَالِ الْمِيَاهِ كَقَوْلِهِمْ : يُصْدِرُ وَيُورِدُ ، وَقَوْلِهِمْ ضَرَبَ أَخْمَاسًا لِأَسْدَاسٍ ، وَقَوْلِهِمْ : يَنْزِعُ إِلَى كَذَا ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=59فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ ، وَقَالَ
عَبْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ :
فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : تَسَاجَلَ الْقَوْمُ ، أَصْلُهُ مِنَ السَّجْلِ ، وَهُوَ الدَّلْوُ .
وَقَالَ
قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ : إِذَا مَا اصْطَبَحْتُ أَرْبَعًا خَطَّ مِئْزَرِي وَأَتْبَعْتُ دَلْوِي فِي السَّمَاحِ رِشَاءَهَا
فَذَكَرَ الدَّلْوَ وَالرِّشَاءَ . وَقَالَ
النَّابِغَةُ :
خَطَاطِيفُ حَجْنٍ فِي حِبَالٍ مَتِينَةٍ تَمُدُّ بِهَا أَيْدٍ إِلَيْكَ نَوَازِعُ
وَقَالَ :
وَلَوْلَا أَبُو الشَّقْرَاءِ مَا زَالَ مَاتِحٌ يُعَالِجُ خَطَّافًا بِإِحْدَى الْجَرَائِرِ
[ ص: 142 ]
وَقَالُوا أَيْضًا " انْتَهَزَ الْفُرْصَةَ " ، وَالْفُرْصَةُ نَوْبَةُ الشُّرْبِ ، وَقَالُوا : صَدَرَ الْقَوْمُ عَنْ رَأْيِ فُلَانٍ وَوَرَدُوا عَلَى رَأْيِهِ .
وَقَوْلُهُ " مِنْهُمْ " وَصْفٌ لِلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ ، وَهُمْ خَاصَّةُ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، أَيْ يَرُدُّونَهُ إِلَى جَمَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ فَيَفْهَمُهُ الْفَاهِمُونَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ ، وَإِذَا فَهِمَهُ جَمِيعُهُمْ فَأَجْدَرُ .
وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=83nindex.php?page=treesubj&link=28975_29703وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ امْتِنَانٌ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى أَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْمَكَائِدِ وَمِنْ حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ وَأَنْصَارِهِ .
وَاسْتِثْنَاءُ " إِلَّا قَلِيلًا " مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ الْمُؤْذِنِ بِهَا " اتَّبَعْتُمْ " ، أَيْ إِلَّا فِي أَحْوَالٍ قَلِيلَةٍ ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ مَا يَشْمَلُ الْبَعْثَةَ فَمَا بَعْدَهَا ، فَالْمُرَادُ بِالْقَلِيلِ الْأَحْوَالُ الَّتِي تَنْسَاقُ إِلَيْهَا النُّفُوسُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِالْوَازِعِ الْعَقْلِيِّ أَوِ الْعَادِيِّ ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ النَّصَائِحُ وَالْإِرْشَادُ فَالْمُرَادُ بِالْقَلِيلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ . وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ اسْتِثْنَاءً مِنْ ضَمِيرِ " اتَّبَعْتُمْ " أَيْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ ، فَالْمُرَادُ مِنَ الِاتِّبَاعِ اتِّبَاعُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَكَائِدِ الَّتِي لَا تَرُوجُ عَلَى أَهْلِ الرَّأْيِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ .