nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=20nindex.php?page=treesubj&link=28976_31926وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبئاء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=21يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=22قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون .
[ ص: 161 ] عطف القصة على القصص والمواعظ . وتقدم القول في نظائر " وإذ قال " في مواضع ، منها قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30وإذ قال ربك للملائكة في البقرة .
ومناسبة موقع هذه الآيات هنا أن القصة مشتملة على تذكير بنعم الله تعالى عليهم وحث على الوفاء بما عاقدوا الله عليه من الطاعة تمهيدا لطلب امتثالهم .
وقدم
موسى عليه السلام أمره
لبني إسرائيل بحرب
الكنعانيين بتذكيرهم بنعمة الله عليهم ليهيئ نفوسهم إلى قبول هذا الأمر العظيم عليهم وليوثقهم بالنصر إن قاتلوا أعداءهم ، فذكر نعمة الله عليهم ، وعد لهم ثلاث نعم عظيمة : أولاها أن فيهم أنبياء ، ومعنى جعل الأنبياء فيهم يجوز أن يكون في عمود نسبهم فيما مضى مثل
يوسف والأسباط
وموسى وهارون ، ويجوز أن يراد جعل في المخاطبين أنبياء; فيحتمل أنه أراد نفسه ، وذلك بعد موت أخيه
هارون ، لأن هذه القصة وقعت بعد موت
هارون; فيكون قوله : " أنبياء " جمعا أريد به الجنس فاستوى الإفراد والجمع ، لأن الجنسية إذا أريدت من الجمع بطلت منه الجمعية ، وهذا الجنس انحصر في فرد يومئذ ، كقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=44يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا يريد
محمدا صلى الله عليه وسلم ، أو أراد من ظهر في زمن
موسى من الأنبياء . فقد كانت
مريم أخت
موسى نبيئة ، كما هو صريح التوراة ( إصحاح : 15 من الخروج ) . وكذلك
ألداد وميداد كانا نبيين في زمن
موسى ، كما في التوراة ( إصحاح : 11 سفر العدد ) . وموقع النعمة في إقامة الأنبياء بينهم أن في ذلك ضمان الهدى لهم والجري على مراد الله تعالى منهم ، وفيه أيضا حسن ذكر لهم بين الأمم وفي تاريخ الأجيال .
والثانية : أن جعلهم ملوكا ، وهذا تشبيه بليغ ، أي كالملوك في تصرفهم في أنفسهم وسلامتهم من العبودية التي كانت عليهم للقبط ، وجعلهم سادة على الأمم التي مروا بها ، من
الآموربين ، والعناقيين ، والحشبونيين ، والرفائيين ، والعمالقة ، والكنعانيين ، أو استعمل فعل " جعلكم " في معنى الاستقبال مثل
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=1أتى أمر الله قصدا لتحقيق الخبر ، فيكون الخبر بشارة لهم بما سيكون لهم .
[ ص: 162 ] والنعمة الثالثة أنه آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين ، وماصدق ( ما ) يجوز أن يكون شيئا واحدا مما خص الله به بني إسرائيل ، ويجوز أن يكون مجموع أشياء ؛ إذ آتاهم الشريعة الصحيحة الواسعة الهدى المعصومة ، وأيدهم بالنصر في طريقهم ، وساق إليهم رزقهم المن والسلوى أربعين سنة ، وتولى تربية نفوسهم بواسطة رسله .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=21يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة هو الغرض من الخطاب ، فهو كالمقصد بعد المقدمة ، ولذلك كرر اللفظ الذي ابتدأ به مقالته وهو النداء بـ " يا قوم " لزيادة استحضار أذهانهم .
والأمر بالدخول أمر بالسعي في أسبابه ، أي تهيئوا للدخول . والأرض المقدسة بمعنى المطهرة المباركة ، أي التي بارك الله فيها ، أو لأنها قدست بدفن
إبراهيم عليه السلام في أول قرية من قراها وهي
حبرون . وهي هنا أرض كنعان من برية صين إلى مدخل (
حماة وإلى
حبرون ) . وهذه الأرض هي أرض
فلسطين ، وهي الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط وبين نهر
الأردن والبحر الميت فتنتهي إلى (
حماة ) شمالا وإلى (
غزة وحبرون ) جنوبا . وفي وصفها بـ
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=21التي كتب الله تحريض على الإقدام لدخولها .
ومعنى كتب الله : قضى وقدر ، وليس ثمة كتابة ولكنه تعبير مجازي شائع في اللغة ، لأن الشيء إذا أكده الملتزم به كتبه ، كما قال
الحارث بن حلزة :
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
فأطلقت الكتابة على ما لا سبيل لإبطاله ، وذلك أن الله وعد
إبراهيم أن يورثها ذريته . ووعد الله لا يخلف .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=21ولا ترتدوا على أدباركم تحذير مما يوجب الانهزام ، لأن ارتداد الجيش على الأعقاب من أكبر أسباب الانخذال . والارتداد افتعال من الرد ، يقال : رده فارتد ، والرد : إرجاع السائر عن الإمضاء في سيره وإعادته إلى المكان الذي
[ ص: 163 ] سار منه . والأدبار : جمع دبر ، وهو الظهر . والارتداد : الرجوع ، ومعنى الرجوع على الأدبار إلى جهة الأدبار ، أي الوراء لأنهم يريدون المكان الذي يمشي عليه الماشي وهو قد كان من جهة ظهره ، كما يقولون : نكص على عقبيه ، وركبوا ظهورهم ، وارتدوا على أدبارهم ، وعلى أعقابهم ، فعدي بـ ( على ) الدالة على الاستعلاء ، أي استعلاء طريق السير ، نزلت الأدبار التي يكون السير في جهتها منزلة الطريق الذي يسار عليه .
والانقلاب : الرجوع ، وأصله الرجوع إلى المنزل قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=174فانقلبوا بنعمة من الله وفضل . والمراد به هنا مطلق المصير .
وضمائر ( فيها ومنها ) تعود إلى الأرض المقدسة .
وأرادوا بالقوم الجبارين في الأرض سكانها
الكنعانيين ،
والعمالقة ،
والحثيين ، واليبوسيين ، والأموريين .
والجبار : القوي ، مشتق من الجبر ، وهو الإلزام لأن القوي يجبر الناس على ما يريد .
وكانت جواسيس
موسى الاثنا عشر الذين بعثهم لارتياد الأرض قد أخبروا القوم بجودة الأرض وبقوة سكانها . وهذا كناية عن مخافتهم من الأمم الذين يقطنون الأرض المقدسة ، فامتنعوا من اقتحام القرية خوفا من أهلها ، وأكدوا الامتناع من دخول أرض العدو توكيدا قويا بمدلول ( إن ) و ( لن ) في
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=24إنا لن ندخلها تحقيقا لخوفهم .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=22فإن يخرجوا منها فإنا داخلون تصريح بمفهوم الغاية في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=22وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها لقصد تأكيد الوعد بدخولها إذا خلت من الجبارين الذين فيها .
وقد أشارت هذه الآية إلى ما في الإصحاح الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد : أن الله أمر
موسى أن يرسل اثني عشر رجلا جواسيس يتجسسون
أرض كنعان التي وعدها الله بني إسرائيل من كل سبط رجلا ; فعين
موسى اثني عشر رجلا ، منهم :
يوشع بن نون من سبط أفرايم ، ومنهم
كالب بن يفنة من سبط يهوذا ، ولم يسموا بقية الجواسيس . فجاسوا خلال الأرض من
برية صين إلى
حماة فوجدوا الأرض ذات ثمار وأعناب ولبن وعسل ووجدوا سكانها معتزين ،
[ ص: 164 ] طوال القامات ، ومدنهم حصينة . فلما سمع
بنو إسرائيل ذلك وهلوا وبكوا وتذمروا على
موسى وقالوا : لو متنا في أرض
مصر كان خيرا لنا من أن تغنم نساؤنا وأطفالنا ، فقال
يوشع وكالب للشعب : إن رضي الله عنا يدخلنا إلى هذه الأرض ولكن لا تعصوا الرب ولا تخافوا من أهلها ، فالله معنا . فأبى القوم من دخول الأرض وغضب الله عليهم . وقال
لموسى : لا يدخل أحد من سنه عشرون سنة فصاعدا هذه الأرض إلا
يوشع وكالبا وكلكم ستدفنون في هذا القفر ، ويكون أبناؤكم رعاة فيه أربعين سنة .
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=20nindex.php?page=treesubj&link=28976_31926وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِئَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=21يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=22قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ .
[ ص: 161 ] عَطْفُ الْقِصَّةِ عَلَى الْقَصَصِ وَالْمَوَاعِظِ . وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظَائِرِ " وَإِذْ قَالَ " فِي مَوَاضِعَ ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ فِي الْبَقَرَةِ .
وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَاتِ هُنَا أَنَّ الْقِصَّةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَذْكِيرٍ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَحَثٍّ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا عَاقَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ مِنَ الطَّاعَةِ تَمْهِيدًا لِطَلَبِ امْتِثَالِهِمْ .
وَقَدَّمَ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمْرَهُ
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِحَرْبِ
الْكَنْعَانِيِّينَ بِتَذْكِيرِهِمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِيُهَيِّئَ نُفُوسَهُمْ إِلَى قَبُولِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ عَلَيْهِمْ وَلِيُوثِقَهُمْ بِالنَّصْرِ إِنْ قَاتَلُوا أَعْدَاءَهُمْ ، فَذَكَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، وَعَدَّ لَهُمْ ثَلَاثَ نِعَمٍ عَظِيمَةٍ : أُولَاهَا أَنَّ فِيهِمْ أَنْبِيَاءَ ، وَمَعْنَى جَعْلِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي عَمُودِ نَسَبِهِمْ فِيمَا مَضَى مِثْلُ
يُوسُفَ وَالْأَسْبَاطِ
وَمُوسَى وَهَارُونَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ جَعَلَ فِي الْمُخَاطَبِينَ أَنْبِيَاءَ; فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ نَفْسَهُ ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ
هَارُونَ ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ بَعْدَ مَوْتِ
هَارُونَ; فَيَكُونُ قَوْلُهُ : " أَنْبِيَاءَ " جَمْعًا أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ فَاسْتَوَى الْإِفْرَادُ وَالْجَمْعُ ، لِأَنَّ الْجِنْسِيَّةَ إِذَا أُرِيدَتْ مِنَ الْجَمْعِ بَطَلَتْ مِنْهُ الْجَمْعِيَّةُ ، وَهَذَا الْجِنْسُ انْحَصَرَ فِي فَرْدٍ يَوْمَئِذٍ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=44يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيئُونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا يُرِيدُ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ أَرَادَ مَنْ ظَهَرَ فِي زَمَنِ
مُوسَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ . فَقَدْ كَانَتْ
مَرْيَمُ أُخْتُ
مُوسَى نَبِيئَةً ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ التَّوْرَاةِ ( إِصْحَاحٌ : 15 مِنَ الْخُرُوجِ ) . وَكَذَلِكَ
أَلْدَادُ وَمِيدَادُ كَانَا نَبِيَّيْنِ فِي زَمَنِ
مُوسَى ، كَمَا فِي التَّوْرَاةِ ( إِصْحَاحٌ : 11 سِفْرُ الْعَدَدِ ) . وَمُوقِعُ النِّعْمَةِ فِي إِقَامَةِ الْأَنْبِيَاءِ بَيْنَهُمْ أَنَّ فِي ذَلِكَ ضَمَانَ الْهُدَى لَهُمْ وَالْجَرْيَ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ ، وَفِيهِ أَيْضًا حُسْنُ ذِكْرٍ لَهُمْ بَيْنَ الْأُمَمِ وَفِي تَارِيخِ الْأَجْيَالِ .
وَالثَّانِيَةُ : أَنْ جَعَلَهُمْ مُلُوكًا ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ ، أَيْ كَالْمُلُوكِ فِي تَصَرُّفِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَسَلَامَتِهِمْ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ لِلْقِبْطِ ، وَجَعَلَهُمْ سَادَةً عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي مَرُّوا بِهَا ، مِنَ
الْآمُورْبِينَ ، وَالْعَنَاقِيِّينَ ، وَالْحَشْبُونِيِّينَ ، وَالرَّفَائِيِّينَ ، وَالْعَمَالِقَةِ ، وَالْكَنْعَانِيِّينَ ، أَوِ اسْتُعْمِلَ فِعْلُ " جَعَلَكُمْ " فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ مِثْلَ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=1أَتَى أَمْرُ اللَّهِ قَصْدًا لِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ ، فَيَكُونُ الْخَبَرُ بِشَارةً لَهُمْ بِمَا سَيَكُونُ لَهُمْ .
[ ص: 162 ] وَالنِّعْمَةُ الثَّالِثَةُ أَنَّهُ آتَاهُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ، وَمَاصْدَقَ ( مَا ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا وَاحِدًا مِمَّا خَصَّ اللَّهُ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعَ أَشْيَاءَ ؛ إِذْ آتَاهُمُ الشَّرِيعَةَ الصَّحِيحَةَ الْوَاسِعَةَ الْهُدَى الْمَعْصُومَةَ ، وَأَيَّدَهُمْ بِالنَّصْرِ فِي طَرِيقِهِمْ ، وَسَاقَ إِلَيْهِمْ رِزْقَهُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى أَرْبَعِينَ سَنَةً ، وَتَوَلَّى تَرْبِيَةَ نُفُوسِهِمْ بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=21يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ هُوَ الْغَرَضُ مِنِ الْخِطَابِ ، فَهُوَ كَالْمَقْصِدِ بَعْدَ الْمُقَدِّمَةِ ، وَلِذَلِكَ كَرَّرَ اللَّفْظَ الَّذِي ابْتَدَأَ بِهِ مَقَالَتَهُ وَهُوَ النِّدَاءُ بِـ " يَا قَوْمِ " لِزِيَادَةِ اسْتِحْضَارِ أَذْهَانِهِمْ .
وَالْأَمْرُ بِالدُّخُولِ أَمْرٌ بِالسَّعْيِ فِي أَسْبَابِهِ ، أَيْ تَهَيَّئُوا لِلدُّخُولِ . وَالْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ بِمَعْنَى الْمُطَهَّرَةِ الْمُبَارَكَةِ ، أَيِ الَّتِي بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا ، أَوْ لِأَنَّهَا قُدِّسَتْ بِدَفْنِ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَوَّلِ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا وَهِيَ
حَبْرُونُ . وَهِيَ هُنَا أَرْضُ كَنْعَانَ مِنْ بَرِّيَّةِ صِينَ إِلَى مَدْخَلِ (
حَمَاةَ وَإِلَى
حَبْرُونَ ) . وَهَذِهِ الْأَرْضُ هِيَ أَرْضُ
فِلَسْطِينَ ، وَهِيَ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ الْبَحْرِ الْأَبْيَضِ الْمُتَوَسِّطِ وَبَيْنَ نَهْرِ
الْأُرْدُنِّ وَالْبَحْرِ الْمَيِّتِ فَتَنْتَهِي إِلَى (
حَمَاةَ ) شَمَالًا وَإِلَى (
غَزَّةَ وَحَبْرُونَ ) جَنُوبًا . وَفِي وَصْفِهَا بِـ
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=21الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ تَحْرِيضٌ عَلَى الْإِقْدَامِ لِدُخُولِهَا .
وَمَعْنَى كَتَبَ اللَّهُ : قَضَى وَقَدَّرَ ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ كِتَابَةٌ وَلَكِنَّهُ تَعْبِيرٌ مَجَازِيٌّ شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ ، لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا أَكَّدَهُ الْمُلْتَزِمُ بِهِ كَتَبَهُ ، كَمَا قَالَ
الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ :
وَهَلْ يَنْقُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ
فَأُطْلِقَتِ الْكِتَابَةُ عَلَى مَا لَا سَبِيلَ لِإِبْطَالِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَ
إِبْرَاهِيمَ أَنْ يُورِثَهَا ذُرِّيَّتَهُ . وَوَعْدُ اللَّهِ لَا يُخْلَفُ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=21وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ تَحْذِيرٌ مِمَّا يُوجِبُ الِانْهِزَامَ ، لِأَنَّ ارْتِدَادَ الْجَيْشِ عَلَى الْأَعْقَابِ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ الِانْخِذَالِ . وَالِارْتِدَادُ افْتِعَالٌ مِنَ الرَّدِّ ، يُقَالُ : رَدَّهُ فَارْتَدَّ ، وَالرَّدُّ : إِرْجَاعُ السَّائِرِ عَنِ الْإِمْضَاءِ فِي سَيْرِهِ وَإِعَادَتُهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي
[ ص: 163 ] سَارَ مِنْهُ . وَالْأَدْبَارُ : جَمْعُ دُبُرٍ ، وَهُوَ الظَّهْرُ . وَالِارْتِدَادُ : الرُّجُوعُ ، وَمَعْنَى الرُّجُوعِ عَلَى الْأَدْبَارِ إِلَى جِهَةِ الْأَدْبَارِ ، أَيِ الْوَرَاءِ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَكَانَ الَّذِي يَمْشِي عَلَيْهِ الْمَاشِي وَهُوَ قَدْ كَانَ مِنْ جِهَةِ ظَهْرِهِ ، كَمَا يَقُولُونَ : نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ ، وَرَكِبُوا ظُهُورَهُمْ ، وَارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ ، وَعَلَى أَعْقَابِهِمْ ، فَعُدِّيَ بِـ ( عَلَى ) الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ ، أَيِ اسْتِعْلَاءِ طَرِيقِ السَّيْرِ ، نُزِّلَتِ الْأَدْبَارُ الَّتِي يَكُونُ السَّيْرُ فِي جِهَتِهَا مَنْزِلَةَ الطَّرِيقِ الَّذِي يُسَارُ عَلَيْهِ .
وَالِانْقِلَابُ : الرُّجُوعُ ، وَأَصْلُهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَنْزِلِ قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=174فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ . وَالْمُرَادُ بِهِ هَنَا مُطْلَقُ الْمَصِيرِ .
وَضَمَائِرُ ( فِيهَا وَمِنْهَا ) تَعُودُ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ .
وَأَرَادُوا بِالْقَوْمِ الْجَبَّارِينَ فِي الْأَرْضِ سُكَّانَهَا
الْكَنْعَانِيِّينَ ،
وَالْعَمَالِقَةَ ،
وَالْحِثِّيِّينَ ، وَالْيَبُوسِيِّينَ ، وَالْأَمُورِيِّينَ .
وَالْجَبَّارُ : الْقَوِيُّ ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَبْرِ ، وَهُوَ الْإِلْزَامُ لِأَنَّ الْقَوِيَّ يَجْبُرُ النَّاسَ عَلَى مَا يُرِيدُ .
وَكَانَتْ جَوَاسِيسُ
مُوسَى الِاثْنَا عَشَرَ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ لِارْتِيَادِ الْأَرْضِ قَدْ أَخْبَرُوا الْقَوْمَ بِجَوْدَةِ الْأَرْضِ وَبِقُوَّةِ سُكَّانِهَا . وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ مَخَافَتِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ يَقْطُنُونَ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ، فَامْتَنَعُوا مِنِ اقْتِحَامِ الْقَرْيَةِ خَوْفًا مِنْ أَهْلِهَا ، وَأَكَّدُوا الِامْتِنَاعَ مِنْ دُخُولِ أَرْضِ الْعَدُوِّ تَوْكِيدًا قَوِيًّا بِمَدْلُولِ ( إِنَّ ) وَ ( لَنْ ) فِي
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=24إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا تَحْقِيقًا لِخَوْفِهِمْ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=22فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=22وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا لِقَصْدِ تَأْكِيدِ الْوَعْدِ بِدُخُولِهَا إِذَا خَلَتْ مِنَ الْجَبَّارِينَ الَّذِينَ فِيهَا .
وَقَدْ أَشَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى مَا فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ : أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ
مُوسَى أَنْ يُرْسِلَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا جَوَاسِيسَ يَتَجَسَّسُونَ
أَرْضَ كَنْعَانَ الَّتِي وَعَدَهَا اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ كُلِّ سِبْطٍ رَجُلًا ; فَعَيَّنَ
مُوسَى اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ، مِنْهُمْ :
يُوشَعُ بْنُ نُونٍ مِنْ سِبْطِ أَفْرَايِمَ ، وَمِنْهُمْ
كَالِبُ بْنُ يَفْنَةَ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا ، وَلَمْ يُسَمُّوا بَقِيَّةَ الْجَوَاسِيسِ . فَجَاسُوا خِلَالَ الْأَرْضِ مِنْ
بَرِّيَّةِ صِينَ إِلَى
حَمَاةَ فَوَجَدُوا الْأَرْضَ ذَات ثِمَارٍ وَأَعْنَابٍ وَلَبَنٍ وَعَسَلٍ وَوَجَدُوا سُكَّانَهَا مُعْتَزِّينَ ،
[ ص: 164 ] طُوَالَ الْقَامَاتِ ، وَمُدُنُهُمْ حَصِينَةٌ . فَلَمَّا سَمِعَ
بَنُو إِسْرَائِيلَ ذَلِكَ وَهِلُوا وَبَكَوْا وَتَذَمَّرُوا عَلَى
مُوسَى وَقَالُوا : لَوْ مُتْنَا فِي أَرْضِ
مِصْرَ كَانَ خَيْرًا لَنَا مِنْ أَنْ تُغْنَمَ نِسَاؤُنَا وَأَطْفَالُنَا ، فَقَالَ
يُوشَعُ وَكَالِبٌ لِلشَّعْبِ : إِنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنَّا يُدْخِلْنَا إِلَى هَذِهِ الْأَرْضِ وَلَكِنْ لَا تَعْصَوُا الرَّبَّ وَلَا تَخَافُوا مِنْ أَهْلِهَا ، فَاللَّهُ مَعَنَا . فَأَبَى الْقَوْمُ مِنْ دُخُولِ الْأَرْضِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . وَقَالَ
لِمُوسَى : لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مَنْ سِنُّهُ عِشْرُونَ سَنَةً فَصَاعِدًا هَذِهِ الْأَرْضَ إِلَّا
يُوشَعَ وَكَالِبًا وَكُلُّكُمْ سَتُدْفَنُونَ فِي هَذَا الْقَفْرِ ، وَيَكُونُ أَبْنَاؤُكُمْ رُعَاةً فِيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً .