الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله : ( فما ربحت تجارتهم )

قال أبو جعفر : وتأويل ذلك أن المنافقين - بشرائهم الضلالة بالهدى - خسروا ولم يربحوا ، لأن الرابح من التجار المستبدل من سلعته المملوكة عليه [ ص: 316 ] بدلا هو أنفس من سلعته المملوكة أو أفضل من ثمنها الذي يبتاعها به . فأما المستبدل من سلعته بدلا دونها ودون الثمن الذي ابتاعها به ، فهو الخاسر في تجارته لا شك . فكذلك الكافر والمنافق ، لأنهما اختارا الحيرة والعمى على الرشاد والهدى ، والخوف والرعب على الحفظ والأمن ، واستبدلا في العاجل : بالرشاد الحيرة ، وبالهدى الضلالة ، وبالحفظ الخوف ، وبالأمن الرعب - مع ما قد أعد لهما في الآجل من أليم العقاب وشديد العذاب ، فخابا وخسرا ، ذلك هو الخسران المبين .

وبنحو الذي قلنا في ذلك كان قتادة يقول .

385 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، ( فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) [ ص: 317 ] : قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ، ومن الجماعة إلى الفرقة ، ومن الأمن إلى الخوف ، ومن السنة إلى البدعة .

قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فما وجه قوله : ( فما ربحت تجارتهم ) ؟ وهل التجارة مما تربح أو توكس ، فيقال : ربحت أو وضعت ؟

قيل : إن وجه ذلك على غير ما ظننت . وإنما معنى ذلك : فما ربحوا في تجارتهم - لا فيما اشتروا ، ولا فيما شروا . ولكن الله جل ثناؤه خاطب بكتابه عربا فسلك في خطابه إياهم وبيانه لهم مسلك خطاب بعضهم بعضا ، وبيانهم المستعمل بينهم . فلما كان فصيحا لديهم قول القائل لآخر : خاب سعيك ، ونام ليلك ، وخسر بيعك ، ونحو ذلك من الكلام الذي لا يخفى على سامعه ما يريد قائله - خاطبهم بالذي هو في منطقهم من الكلام ، فقال : ( فما ربحت تجارتهم ) إذ كان معقولا عندهم أن الربح إنما هو في التجارة ، كما النوم في الليل . فاكتفى بفهم المخاطبين بمعنى ذلك ، عن أن يقال : فما ربحوا في تجارتهم ، وإن كان ذلك معناه ، كما قال الشاعر :


وشر المنايا ميت وسط أهله كهلك الفتاة أسلم الحي حاضره



يعني بذلك : وشر المنايا منية ميت وسط أهله ، فاكتفى بفهم سامع قيله مراده من ذلك ، عن إظهار ما ترك إظهاره ، وكما قال رؤبة بن العجاج :


حارث! قد فرجت عني همي     فنام ليلي وتجلى غمي



فوصف بالنوم الليل ، ومعناه أنه هو الذي نام ، وكما قال جرير بن الخطفى :


وأعور من نبهان أما نهاره     فأعمى ، وأما ليله فبصير



فأضاف العمى والإبصار إلى الليل والنهار ، ومراده وصف النبهاني بذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية