الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 485 ] القول في تأويل قوله : ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : ألم تر إذ قال إبراهيم : رب أرني . وإنما صلح أن يعطف بقوله : ( وإذ قال إبراهيم ) على قوله : ( أو كالذي مر على قرية ) ، وقوله : ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ) ؛ لأن قوله : ( ألم تر ) ليس معناه : ألم تر بعينيك ، وإنما معناه : ألم تر بقلبك ، فمعناه : ألم تعلم فتذكر ، فهو وإن كان لفظه لفظ " الرؤية " فيعطف عليه أحيانا بما يوافق لفظه من الكلام ، وأحيانا بما يوافق معناه .

واختلف أهل التأويل في سبب مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى . فقال بعضهم : كانت مسألته ذلك ربه أنه رأى دابة قد تقسمتها السباع والطير ، فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها ، مع تفرق لحومها في بطون طير الهواء وسباع الأرض ليرى ذلك عيانا فيزداد يقينا برؤيته ذلك عيانا إلى علمه به خبرا ، فأراه الله ذلك مثلا بما أخبر أنه أمره به .

ذكر من قال ذلك :

5963 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى ) ذكر لنا أن خليل الله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أتى على دابة توزعتها الدواب والسباع ، فقال : ( رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) .

5964 - حدثنا عن الحسن قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد ، [ ص: 486 ] قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( رب أرني كيف تحيي الموتى ) قال : مر إبراهيم على دابة ميت قد بلي وتقسمته الرياح والسباع ، فقام ينظر ، فقال : . سبحان الله ! كيف يحيي الله هذا ؟ وقد علم أن الله قادر على ذلك ، فذلك قوله : ( رب أرني كيف تحيي الموتى ) .

5965 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : بلغني أن إبراهيم بينا هو يسير على الطريق ، إذا هو بجيفة حمار عليها السباع والطير ، قد تمزعت لحمها ، وبقي عظامها . فلما ذهبت السباع ، وطارت الطير على الجبال والآكام ، فوقف وتعجب ، ثم قال : رب قد علمت لتجمعنها من بطون هذه السباع والطير ! رب أرني كيف تحيي الموتى ! قال : أولم تؤمن ، قال : بلى ! ولكن ليس الخبر كالمعاينة .

5966 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : مر إبراهيم بحوت نصفه في البر ، ونصفه في البحر ، فما كان منه في البحر فدواب البحر تأكله ، وما كان منه في البر فالسباع ودواب البر تأكله ، فقال له الخبيث : . يا إبراهيم ، متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء ؟ فقال : يا رب ، أرني كيف تحيي الموتى ! قال : أولم تؤمن ؟ قال : بلى ! ولكن ليطمئن قلبي .

وقال آخرون : بل كان سبب مسألته ربه ذلك المناظرة والمحاجة التي جرت بينه وبين نمروذ في ذلك .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 487 ]

5967 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق قال : لما جرى بين إبراهيم وبين قومه ما جرى مما قصه الله في " سورة الأنبياء " قال نمروذ - فيما يذكرون - لإبراهيم : أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته ، وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره ، ما هو ؟ قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت . قال نمروذ : أنا أحيي وأميت . فقال له إبراهيم : كيف تحيي وتميت ؟ ثم ذكر ما قص الله من محاجته إياه . قال : فقال إبراهيم عند ذلك : رب أرني كيف تحيي الموتى ، قال : أولم تؤمن ؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي . من غير شك في الله - تعالى ذكره - ولا في قدرته ، ولكنه أحب أن يعلم ذلك وتاق إليه قلبه فقال : " ليطمئن قلبي " أي : ما تاق إليه إذا هو علمه .

قال أبو جعفر : وهذان القولان - أعني الأول وهذا الآخر - متقاربا المعنى في أن مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى كانت ليرى عيانا ما كان عنده من علم ذلك خبرا .

وقال آخرون : بل كانت مسألته ذلك ربه عند البشارة التي أتته من الله بأنه اتخذه خليلا فسأل ربه أن يريه عاجلا من العلامة له على ذلك ؛ ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلا ويكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيدا .

ذكر من قال ذلك :

5968 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما اتخذ الله إبراهيم خليلا سأل ملك الموت ربه أن يأذن له أن يبشر إبراهيم بذلك ، فأذن له ، فأتى إبراهيم وليس في البيت ، فدخل داره وكان إبراهيم أغير الناس ، إن خرج أغلق الباب فلما جاء ووجد في داره رجلا [ ص: 488 ] ثار إليه ليأخذه . قال : من أذن لك أن تدخل داري ؟ قال ملك الموت : أذن لي رب هذه الدار ، قال إبراهيم : صدقت ! وعرف أنه ملك الموت . قال : من أنت ؟ قال : أنا ملك الموت جئتك أبشرك بأن الله قد اتخذك خليلا ! فحمد الله وقال : يا ملك الموت ، أرني الصورة التي تقبض فيها أنفاس الكفار . قال : يا إبراهيم لا تطيق ذلك . قال : بلى . قال : فأعرض ! فأعرض إبراهيم ثم نظر إليه ، فإذا هو برجل أسود تنال رأسه السماء يخرج من فيه لهب النار ، ليس من شعرة في جسده إلا في صورة رجل أسود يخرج من فيه ومسامعه لهب النار . فغشي على إبراهيم ، ثم أفاق وقد تحول ملك الموت في الصورة الأولى ، فقال : يا ملك الموت ، لو لم يلق الكافر عند الموت من البلاء والحزن إلا صورتك لكفاه ، فأرني كيف تقبض أنفاس المؤمنين ؟ قال : فأعرض ! فأعرض إبراهيم ، ثم التفت ، فإذا هو برجل شاب أحسن الناس وجها وأطيبه ريحا ، في ثياب بيض ، فقال : يا ملك الموت ، لو لم يكن للمؤمن عند ربه من قرة العين والكرامة إلا صورتك هذه ، لكان يكفيه .

فانطلق ملك الموت ، وقام إبراهيم يدعو ربه يقول : رب أرني كيف تحيي الموتى حتى أعلم أني خليلك . قال : أولم تؤمن بأني خليلك ؟ يقول : تصدق . قال : بلى ، ولكن ليطمئن قلبي بخلولتك . [ ص: 489 ]

5969 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير : ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال : بالخلة .

وقال آخرون : قال ذلك لربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى .

ذكر من قال ذلك :

5970 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب في قوله : ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال : قال ابن عباس : ما في القرآن آية أرجى عندي منها .

5971 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة قال : سمعت زيد بن علي يحدث عن رجل ، عن سعيد بن المسيب قال : اتعد عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو أن يجتمعا . قال : ونحن يومئذ شببة ، فقال أحدهما لصاحبه : أي آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة ؟ فقال عبد الله بن عمرو : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ) . [ الزمر : 53 ] حتى ختم الآية . فقال ابن عباس : أما إن كنت تقول إنها ، وإن أرجى منها لهذه [ ص: 490 ] الأمة قول إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - : ( رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) .

5972 - حدثنا القاسم قال : حدثني الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله : ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) قال : دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس ، فقال : ( رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ) قال : ( فخذ أربعة من الطير ) ؛ ليريه .

5973 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، قال حدثنا سعيد بن تليد قال : حدثنا عبد الرحمن بن القاسم قال : حدثني بكر بن مضر ، عن عمرو بن الحارث ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " نحن أحق بالشك من إبراهيم ، قال : رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " . [ ص: 491 ]

5974 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فذكر نحوه .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما صح به الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : وهو قوله : " نحن أحق بالشك من إبراهيم قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن " وأن تكون مسألته ربه ما سأله أن يريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرض في قلبه ، كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفا من أن إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البر وبعضه في البحر ، قد تعاوره دواب البر ودواب البحر وطير الهواء ، ألقى الشيطان في نفسه فقال : متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء ؟ فسأل إبراهيم حينئذ ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ؛ ليعاين ذلك عيانا ، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي ألقى [ ص: 492 ] فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك . فقال له ربه : ( أولم تؤمن ) ؟ يقول : أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر ؟ قال : بلى يا رب ! لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي ، فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رؤيتي هذا الحوت .

5975 - حدثني بذلك يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد .

ومعنى قوله : ( ليطمئن قلبي ) ليسكن ويهدأ باليقين الذي يستيقنه .

وهذا التأويل الذي قلناه في ذلك هو تأويل الذين وجهوا معنى قوله : ( ليطمئن قلبي ) إلى أنه : ليزداد إيمانا أو إلى أنه : ليوقن .

ذكر من قال ذلك : ليوقن أو ليزداد يقينا أو إيمانا .

5976 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا أبو نعيم ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن سعيد بن جبير : ( ليطمئن قلبي ) قال : ليوقن .

5977 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان . وحدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير : ( ليطمئن قلبي ) قال : ليزداد يقيني .

5978 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( ولكن ليطمئن قلبي ) يقول : ليزداد يقينا .

5979 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال : وأراد نبي الله إبراهيم ليزداد يقينا إلى يقينه .

5980 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : قال معمر وقال قتادة : ليزداد يقينا . [ ص: 493 ]

5981 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال : أراد إبراهيم أن يزداد يقينا .

5982 - حدثني المثنى قال : حدثنا محمد بن كثير البصري قال : حدثنا إسرائيل قال : حدثنا أبو الهيثم ، عن سعيد بن جبير : ( ليطمئن قلبي ) قال : ليزداد يقيني .

5983 - حدثني المثنى قال : حدثنا الفضل بن دكين قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير : ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال : ليزداد يقينا .

5984 - حدثنا صالح بن مسمار قال : حدثنا زيد بن الحباب قال : حدثنا خلف بن خليفة قال : حدثنا ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد وإبراهيم في قوله : ( ليطمئن قلبي ) قال : لأزداد إيمانا مع إيماني .

5985 - حدثنا صالح قال : حدثنا زيد قال : أخبرنا زياد ، عن عبد الله العامري قال : حدثنا ليث ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير في قول الله : ( ليطمئن قلبي ) قال : لأزداد إيمانا مع إيماني .

وقد ذكرنا فيما مضى قول من قال : معنى قوله : ( ليطمئن قلبي ) بأني خليلك .

وقال آخرون : معنى قوله : ( ليطمئن قلبي ) لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك ، وتعطيني إذا سألتك .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 494 ]

5986 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( ليطمئن قلبي ) قال : أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك ، وتعطيني إذا سألتك .

وأما تأويل قوله : ( قال أولم تؤمن ) فإنه : أولم تصدق ؟ كما : -

5987 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي .

5988 - وحدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن سعيد بن جبير قوله : ( أولم تؤمن ) قال : أولم توقن بأني خليلك ؟

5989 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( أولم تؤمن ) قال : أولم توقن .

التالي السابق


الخدمات العلمية