الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان ظاهر سؤالهم من الاستفهام عن الاستطاعة للاضطراب؛ وإن كان للإلهاب؛ أكد الجواب؛ فقال: إني منـزلها عليكم ؛ أي: الآن؛ بقدرتي الخاصة بي؛ فمن يكفر بعد ؛ أي: بعد إنزالها؛ منكم ؛ وهذا السياق مشعر بأنه يحصل منهم كفر؛ وقد وجد ذلك؛ حتى في الحواريين؛ على ما يقال في يهودا الإسخريوطي؛ أحدهم؛ الذي دل على عيسى - عليه السلام -؛ فألقي شبهه عليه؛ ولهذا خصه بهذا العذاب؛ فقال: فإني أعذبه ؛ أي: على سبيل البت؛ والقطع؛ عذابا لا أعذبه ؛ أي: مثله أبدا؛ فيما يأتي من الزمان؛ أحدا من العالمين ؛ وفي هذا أتم زاجر لهذه الأمة عن اقتراح الآيات؛ وفي ذكر قصة المائدة في هذه السورة التي افتتحت بإحلال المآكل؛ واختتمت بها؛ أعظم تناسب؛ وفي ذلك كله إشارة إلى تذكير هذه الأمة بما أنعم عليها بما أعطى نبيها من المعجزات؛ ومن عليها به من حسن الاتباع؛ وتحذير من كفران هذه النعم [ ص: 359 ] المعددة عليهم؛ وقد اختلف المفسرون في حقيقة هذه المائدة؛ وفي أحوالها; قال أبو حيان : وأحسن ما يقال فيه ما خرجه الترمذي في أبواب التفسير؛ عن عمار بن ياسر - رضي اللـه عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما؛ وأمروا ألا يدخروا لغد؛ ولا يخونوا؛ فخانوا؛ وادخروا؛ ورفعوا لغد؛ فمسخوا قردة وخنازير؛ انتهى؛ قلت: ثم صحح الترمذي وقفه على عمار؛ وقال: لا نعلم للحديث المرفوع أصلا؛ غير أن ذلك لا يضره؛ لكونه لا يقال من قبل الرأي؛ ولا أعلم أحدا ذكر عمارا فيمن أخذ عن أهل الكتاب؛ فهو مرفوع حكما؛ وهذا الخبر يؤكد أن الخبر في الآية على بابه؛ فيدفع قول من قال: إنها لم تنزل؛ لأنهم لما سمعوا الشرط قالوا: لا حاجة لنا بها؛ لأن خبره (تعالى) لا يخلف؛ ولا يبدل القول لديه؛ وهذا الرزق الذي من السماء قد وقع مثله لآحاد الأمة; روى البيهقي في أواخر الدلائل؛ عن أبي هريرة قال: كانت امرأة من دوس؛ يقال لها أم شريك؛ أسلمت في رمضان؛ فأقبلت تطلب من يصحبها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلقيت رجلا من اليهود؛ فقال: ما لك يا أم شريك؟ قالت: أطلب رجلا يصحبني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال: [ ص: 360 ] فتعالي فأنا أصحبك؛ قالت: فانتظرني حتى أملأ سقائي ماء؛ قال: معي ماء؛ ما لا تريدين ماء؛ فانطلقت معهم؛ فساروا يومهم حتى أمسوا؛ فنزل اليهودي؛ ووضع سفرته فتعشى؛ وقال: يا أم شريك؛ تعالي إلى العشاء؛ فقالت: اسقني من الماء؛ فإني عطشى؛ ولا أستطيع أن آكل حتى أشرب؛ فقال لها: لا أسقيك حتى تهودي؛ فقالت: لا جزاك الله خيرا؛ غربتني؛ ومنعتني أن أحمل ماء؛ فقال: لا والله لا أسقيك منه قطرة حتى تهودي؛ فقالت: لا والله لا أتهود أبدا بعد إذ هداني الله للإسلام; فأقبلت إلى بعيرها فعقلته؛ ووضعت رأسها على ركبته فنامت؛ قالت: فما أيقظني إلا برد دلو قد وقع على جبيني؛ فرفعت رأسي؛ فنظرت إلى ماء أشد بياضا من اللبن؛ وأحلى من العسل؛ فشربت حتى رويت؛ ثم نضحت على سقائي حتى ابتل؛ ثم ملأته؛ ثم رفع بين يدي وأنا أنظر؛ حتى توارى عني في السماء؛ فلما أصبحت جاء اليهودي فقال: يا أم شريك؛ قلت: والله قد سقاني الله؛ قال: من أين أنزل عليك؟ من السماء؟ قلت: نعم؛ والله لقد أنزل الله علي من السماء؛ ثم رفع [ ص: 361 ] بين يدي حتى توارى عني في السماء; ثم أقبلت حتى دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقصت عليه القصة؛ فخطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها نفسها؛ فقالت: يا رسول الله؛ لست أرضى نفسي لك؛ ولكن بضعي لك؛ فزوجني من شئت؛ فزوجها زيدا؛ وأمر لها بثلاثين صاعا؛ وقال: كلوا ولا تكيلوا؛ وكان معها عكة سمن هدية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت لجارية لها: بلغي هذه العكة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قولي: أم شريك تقرئك السلام؛ وقولي: هذه عكة سمن أهديناها لك؛ فانطلقت بها الجارية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذوها؛ ففرغوها؛ وقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "علقوها؛ ولا توكوها؛ فعلقوها في مكانها؛ فدخلت أم شريك فنظرت إليها مملوءة سمنا؛ فقالت: يا فلانة؛ أليس أمرتك أن تنطلقي بهذه العكة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: قد والله انطلقت بها كما قلت؛ ثم أقبلت بها أضربها ما يقطر منها شيء؛ ولكنه قال: "علقوها ولا توكوها"؛ فعلقتها في مكانها؛ وقد أوكتها أم شريك حين رأتها مملوءة فأكلوا منها حتى فنيت؛ ثم كالوا الشعير فوجدوه ثلاثين صاعا لم ينقص منه شيء؛ قال: وروي [ ص: 362 ] ذلك من وجه آخر؛ ولحديثه شاهد صحيح عن جابر رضي الله عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      وروي بإسناده عن أبي عمران الجوني أن أم أيمن هاجرت من مكة إلى المدينة؛ وليس معها زاد؛ فلما كانت عند الروحاء؛ وذلك عند غيبوبة الشمس؛ عطشت عطشا شديدا؛ قالت: فسمعت هفيفا شديدا فوق رأسي؛ فرفعت رأسي فإذا دلو مدلى من السماء برشاء أبيض؛ فتناولته بيدي؛ حتى استمسكت به؛ قالت: فشربت منه حتى رويت؛ قالت: فلقد أصوم بعد تلك الشربة في اليوم الحار الشديد الحر ثم أطوف في الشمس كي أظمأ؛ فما ظمئت بعد تلك الشربة؛ قال: وفي الجهاد عن البخاري ؛ عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة رهط سرية عينا؛ وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري؛ جد عاصم بن عمر بن الخطاب - رضي اللـه عنهم - فذكر الحديث حتى قال: فابتاع خبيبا - يعني ابن عدي الأنصاري - بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف؛ وكان خبيب قد قتل الحارث بن عامر يوم بدر؛ فلبث خبيب عندهم أسيرا؛ فأخبرني عبيد الله بن عياض أن ابنة الحارث قالت: والله ما رأيت أسيرا قط [ ص: 363 ] خيرا من خبيب؛ والله لقد وجدته يوما يأكل من قطف عنب في يده؛ وإنه لموثق في الحديد؛ وما بمكة من ثمر؛ وكانت تقول: إنه لرزق من الله رزق خبيبا" ؛ الحديث.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن الأمر الجلي أن عيسى - عليه السلام - بعد أمر الله (تعالى) له بذكر هذه النعم يقوم في ذلك الجمع؛ فيذكرها؛ ويذكر المقصود من التذكير بها؛ وهو الثناء على المنعم بها؛ بما يليق بجلاله؛ فيحمد ربه (تعالى) بمحامد تليق بذلك المقام في ذلك الجمع؛ فمن أنسب الأمور حينئذ سؤاله - وهو المحيط علما بمكنونات الضمائر؛ وخفيات السرائر؛ إثر التهديد لمن يكفر - عما كفر به النصارى؛ فلذلك قال (تعالى) - عاطفا على قوله: إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك -:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية